ابحاث ودراساتسلايدر
الدولة واللادولة في العراق/ الجزء15
محاكمة الرؤساء في العراق بين النصوص الدستورية والسيادة الضائعة
الدكتور مصدق عادل
كلية القانون- جامعة بغداد
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
تتسابق الدول في ما بينها في إخضاع الحكام والمحكومين لسيادة الدستور والقانون، بالشكل الذي أصبح معه شعار (محاكمة الرئيس) يعتبر من أهم معالم النظام الديمقراطي، وركيزة أساسية من ركائز بناء الدولة الحديثة.
وانطلاقاً من هذا المبدأ نجد أنَّ غالبية الدساتير المقارنة تكرس مبدأ محاكمة الرئيس الأعلى، يستوي في ذلك أنْ يكون رئيس الدولة أو رئيس الوزراء بين ثنايا نصوص الدستور، إيماناً منها بمبدأ سيادة القانون، ومبدأ المساواة أمام القانون، وتأكيداً على مبدأ السيادة الشعبية، ولقد تجلى ذلك واضحاً في الدستور الأمريكي لسنة 1787 والدستور الفرنسي لسنة 1958 والدستور الألماني لسنة 1949 وكذلك الدستور المصري لسنة 2014 والدستور اللبناني لسنة 1926 المعدل.
وفي هذا الاتجاه سار دستور جمهورية العراق لسنة 2005، إذ أورد العديد من النصوص التي تتعلق بمحاكمة رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء في آن واحد، إذ تتمثل حالات اتهام رئيس الجمهورية ومحاكمته وفق المادة (61/سادساً) من الدستور بـ(3) حالات وهي (الحنث في اليمين الدستورية) و(انتهاك الدستور) و(الخيانة العظمى)[1].
وعلى الرغم من أهمية منصب رئيس مجلس الوزراء بأعتباره المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسة العامة للدولة غير أنه يلاحظ سكوت الدستور العراقي عن تحديد حالات اتهام رئيس مجلس الوزراء ومحاكمته، إذ اكتفى بإحالتها إلى قانون ينظم ذلك[2].
وبتطبيق ما تقدم على الواقع العملي نجد أنَّ الدورات النيابية الأولى (2006-2010) والثانية (2010-2014) والثالثة (2014-2018) شهدت انتهاكات دستورية كثيرة، ولعل من أهمها امتناع رئيس الجمهورية (ج.ط) عن تسمية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً بعد تقديمه مطالباً بتسمية مرشحاً آخراً[3]، فضلاً عن امتناع رئيس الجمهورية عن إصدار المراسيم الجمهورية بتنفيذ أحكام الإعدام الصادرة من المحاكم العراقية وفق المادة (73) من الدستور[4]، يستوي في ذلك الأحكام الصارة من المحكمة الجنائية العليا أو المحكمة الجنائية المركزية أو المحاكم الأخرى، فضلاً عن امتناعه العمدي عن ارسال القوانين المصوت عليها من مجلس النواب للنشر في الجريدة الرسمية، كما هو الحال في قانون واردات البلديات لعام 2016[5]، وعلى الرغم مما تقدم غير أنه لم يصار إلى تحريك الاتهام أو المحاكمة البرلمانية لرئيس الجمهورية.
بل على العكس من ذلك وجدنا أنَّ المحكمة الاتحادية العليا قد ساهمت مساهمة فعالة في تعطيل مساءلة رئيس الجمهورية في العديد من القرارات التي أصدرتها، ومنها القرار رقم (41) لسنة 2017 الذي جاء فيه (ينعقد اختصاص المحكمة الاتحادية العليا بالفعل في الاتهامات الموجهة لرئيس الجمهورية صدور قانون من مجلس النواب ينظم كيفية الفصل في هذه الاتهامات لذلك، ولعدم صدور القانون فلا يمكن مسائلته).
وعلى الرغم من تكرار انتهاك الدستور في الدورة الانتخابية الرابعة (2018-2022) من قبل رئيس الجمهورية (ب.ص) بعد امتناعه عن تسمية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً لتشكيل مجلس الوزراء وانقضاء المدة المحددة للتكليف في 16/12/2019، فضلاً عن عدم اتخاذ أي إجراءات بخصوص انتهاك السيادة العراقية من قبل الدول الأجنبية المحتلة للأراضي العراقية مرات عديدة آخرها الاحتلال التركي للأراضي العراقية منذ 24/6/2019، غير أنه لم يصار إلى مساءلة رئيس الجمهورية، وذلك بسبب التعطيل الفعلي الذي مارسته المحكمة الاتحادية العليا لنص المادتين (61/سادساً) و(93/سادساً) من الدستور.
وبهذا ظلت مسألة “محاكمة رئيس الجمهورية” في العراق مبدأ دستورياً نظرياً منصوص عليه في نصوص الدستور، ومغيباً في الواقع السياسي العملي، رغم وقوع العديد من حالات الانتهاكات الدستورية، والحنث في اليمين الدستورية المفروضة على الرئيس باعتباره – القائد العام للقوات المسلحة للأغراض التشريفية – بالمحافظة على استقلال العراق وسيادته ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحكام الدستور[6].
وينطبق الحكم ذاته بالنسبة الى رئيس مجلس الوزراء، إذ توالت الانتهاكات الدستورية لنصوص الدستور في الدورة الانتخابية الثانية (2010-2014)، إذ تمثل أهمها في عدم اتخاذ الإجراءات العسكرية الاحتياطية اللازمة لمنع سقوط (3) محافظات عراقية بيد تنظيم داعش الإرهابي عام 2014[7]، وعلى الرغم من ذلك فإنه لم يصار إلى تحريك الاتهام الجنائي له، وذلك بسبب عدم صدور القانون الذي ينظم عملية الاتهام والمحاكمة من مجلس النواب وفقاً لما انتهى إليه قرار المحكمة الاتحادية العليا المذكور أعلاه.
وبالإضافة الى ما تقدم فقد ساهم جميع رؤساء مجلس الوزراء المتعاقبين في العراق لغاية يومنا هذا في زيادة وتضخيم المديونية الخارجية للعراق، والتي وصلت الى ما يقارب (137) مليار دولار حسب تقديرات الأمم المتحدة، مما يعني المساهمة الفاعلة في افقار الشعب العراقي وتبديد ثرواته الطبيعية ومن بينها النفط والغاز، ومن ثم الاخلال بصيغة اليمين الدستورية التي سبق وأنْ أدوها بالمحافظة على السيادة الوطنية، إذ جعلت هذه الديون العراق محتل اقتصادياً من قبل الدول المدينة له.
وعلى الرغم من جسامة الانتهاكات المذكورة غير أنَّ ما يلفت النظر هو عدم وجود حسابات ختامية لجمهورية العراق منذ عام 2011 ولغاية يومنا هذا رغم صراحة المادة (62) من الدستور التي تنص على (اولاً: يقدم مجلس الوزراء مشروع قانون الموازنة العامة والساب الختامي إلى مجلس النواب لإقراره)[8].
واستمر الحال كذلك في الدورة الانتخابية الرابعة ولغاية يومنا هذا، فعلى الرغم من صدور قانون الإدارة المالية رقم (6) لسنة 2019 الذي يلزم مجلس الوزراء بتقديم الحسابات الختامية في أيلول من كل سنة[9]، غير أنه لم يصار إلى تقديمه لغاية يومنا هذا.
ولم يتم الاكتفاء بالانتهاكات الدستورية المذكورة فحسب، بل شهدت الدورة الانتخابية الرابعة العديد من الانتهاكات الأخرى[10]، ولعل من أهمها عدم وجود موازنة عامة اتحادية للعام 2020، وانتهى الحال بإرسال مشروع قانون الموازنة والذي بلغت نسبة العجز فيه ما يقارب (69) تريلون دينار عراقي.
وبهذا يتضح أنَّه لم يصار إلى تطبيق النص الدستوري بصورة مباشرة دون انتظار صدور القانون الذي ينظم عملية الاتهام والمحاكمة البرلمانية لرئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء، إذ إنَّ الدستور يعد القانون الأسمى والأعلى والذي يتوجب تطبيق نصوصه بصورة مباشرة دون انتظار القانون الذي ينظم الأحكام التفصيلية للاتهام والمحاكمة، إذا ما علمنا أنه تم تحديد العقوبة المفروضة والتي لا تخرج عن الإعفاء من المنصب أو سحب الثقة من الوزارة.
وبناءً على ما تقدم ندعو رؤساء السلطة التنفيذية في العراق إلى الالتزام بنصوص الدستور، وعدم الخروج على أحكامه باجتهادات شخصية أو لاعتبارات سياسية أو غيرها، إذ إنَّ للمال العام حرمة، وحمايته واجب على كل مواطن وفق المادة (27) من الدستور، وهو مدعوين باسم المصلحة الوطنية إلى معالجة الانتهاكات الدستورية، يستوي في ذلك المرتكبة من قبلهم أو من الرئاسات السابقة تطبيقاً لمبدأ سيادة القانون وسمو الدستور والمساواة أمام القانون المنصوص عليها في الدستور العراقي[11].
وفضلاً عما تقدم فإنَّ كلاً من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ملزمان – وفق نصوص المواد (50) و(109) من الدستور – بالحفاظ على استقلال العراق وارضيه ومياهه، وذلك من خلال انهاء الاحتلال الأجنبي للأراضي العراقية، يستوي في ذلك في إقليم كردستان- العراق أو غيرها في وسط وغرب وجنوب العراق.
كما أنَّ هذه المسؤولية ملقاة أيضاً على عاتق مجلس النواب ايضاً، باعتباره السلطة المختصة بإعلان حالة الحرب بأغلبية ثلثي أعضائه في حالة تقديم طلب مشترك من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء لغرض إنهاء الاحتلال التركي وغيره وفق المادة (61/تاسعاً/أ) من الدستور.
كما نهيب في الوقت ذاته بالسيد رئيس مجلس الوزراء إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة لتخفيض المديونية الخارجية للعراق، وذلك في إطار تحرير السيادة الاقتصادية العراقية وبدلالة المادة (7) من قانون الاقتراض المحلي والخارجي لتمويل العجز المالي رقم (5) لسنة 2020 التي تنص (على مجلس الوزراء تقديم برنامج للإصلاح الاقتصادي الى مجلس النواب خلال فترة لا تتجاوز (60) يوماً من تاريخ إقرار هذا القانون)، إذ انتهت هذه المدة من تاريخ 23اب 2020 ولم يصار إلى تقديم هذا البرنامج.
كما أننا نطالب مجلس النواب بالإسراع في إقرار قانون محاكمة رئيس وأعضاء السلطة التنفيذية في العراق من أجل استكمال حلقات بناء الدول والمؤسسات العراقية.
[1] – تنص المادة (61/سادساً) من الدستور العراقي على انه (يختص مجلس النواب بما يأتي : سادساً: أ- مُساءلة رئيس الجمهورية بناءً على طلب مُسبب، بالأغلبية المُطلقة لعدد أعضاء مجلس النواب. ب- إعفاء رئيس الجمهورية بالأغلبية المُطلقة لعدد أعضاء مجلس النواب، بعد إدانته من المحكمة الاتحادية العليا، في إحدى الحالات الآتية:
1- الحنث في اليمين الدستورية.
2- انتهاك الدستور.
3- الخيانة العظمى).
[2] – تنص المادة (93) من الدستور العراقي على انه (تختص المحكمة الاتحادية العليا بما يأتي: سادساً: الفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء، ويُنظم ذلك بقانون).
[3] – تشير السوابق العملية الى امتناع رئيس الجمهورية بعد اعتراض كتلة (التحالف الكردستاني) عن تسمية مرشح الائتلاف العراقي الموحد، مما اضطر الكتلة النيابية الأكثر عدداً الى تقديم مرشاً اخر وهو السيد (نوري المالكي).
[4] – تنص المادة (93) من الدستور (يتولى رئيس الجمهورية الصلاحيات الاتية: ثامناً: المصادقة على أحكام الإعدام التي تصدرها المحاكم المختصة).
[5] – صوت مجلس النواب بتاريخ 22/10/2016 على قانون واردات البلديات بحضور 226 نائباً، غير ان رئيس الجمهورية ممتنعاً لغاية يومنا هذا عن ارسال هذا القانون الى الوقائع العراقية لغرض الامر بنشره.
[6] – ينظر المواد (73/تاسعاً) و(67) و(50) و(71) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005، مع الإشارة إلى انَّ مجرد إصدار بيان الاستنكار والتنديد بالاحتلال الأجنبي لا يكفي، وإنما يلزم أنْ يصار إلى استدعاء رئيس مجلس الوزراء وتوجيهه باتخاذ الإجراءات اللازمة لصد العدوان والاحتلال الأجنبي وفق الدستور والقوانين النافذة.
[7] – ولم يقتصر الامر عند هذا الحد فحسب، بل نجد تدخل سافر في الشأن العراقي من قبل الولايات المتحدة الامريكية، اذ قام موقع الكتروني يطلق عليه “آفاز” بفتح باب جمع (100000) مائة الف من تواقيع العراقيين ليتم تسليمها إلى المحكمة الجنائية الدولية وأمين عام الأمم المتحدة. وقال الموقع “نحن نسعى إلى تقديم جميع مرتكبي الجرائم بحق المواطنين العراقيين خلال السنوات السابقة، والمستمرة حتى الآن، إلى العدالة”.
[8] – ينظر قرار مجلس النواب رقم 24 لسنة 2016 المصادقة على الحساب الختامي لجمهورية العراق للسنين ( 2005-2006)، وكذلك قرار مجلس النواب رقم (6) لسنة 2016 بشأن الحسابات الختامية لسنة 2007، وقرار مجلس النواب رقم 28 لسنة 2016 المصادقة على الحساب الختامي للموازنة 2008، وقرار مجلس النواب رقم 27 لسنة 2016 المصادقة على حساب الختامي للموازنة للسنة 2009، وقرار الحساب الختامي لجمهورية العراق لسنة 2010 المصادق عليه بقرار مجلس النواب رقم (26) لسنة 2016، وكذلك الحساب الختامي لجمهورية العراق لسنة 2011 المصادق عليه بقرار مجلس النواب رقم (25) لسنة 2016، وقرار مجلس النواب رقم 26 لسنة 2016 المصادقة على الحساب الختامي للموازنة لسنة 2010، وقرار مجلس النواب رقم 25 لسنة 2016 المصادقة على حساب الختامي للموازنة لسنة 2011.
[9] – تنص المادة (28) من قانون الإدارة المالية على انه (اولاً: يعلن وزير المالية تأريخ غلق الحسابات الختامية للسنة المالية المنتهية على ان لا يتجاوز (31/1) من السنة اللاحقة.ثانياً: تقدم وحدات الانفاق والادارات الممولة ذاتيا حساباتها الختامية الى ديوان الرقابة المالية الاتحادي في موعد أقصاه نهاية شهر اذار من السنة اللاحقة.ثالثاً: يصدر ديوان الرقابة المالية الاتحادي تقريره عن الحسابات الختامية المنصوص عليها في البند (ثانيا) من هذه المادة في موعد اقصاه نهاية شهر ايار من السنة اللاحقة).
[10] – من هذه الانتهاكات الدستورية المنسوبة للوزارة الأولى هي جريمة قتل اكثر من (600) متظاهر دون الكشف عن هوية الفاعلين، فضلاً عن تقديم طلب من الممثل القانوني لرئيس مجلس الوزراء بإيقاف إصدار الحكم الذي سيصدر لصالح الحكومة الاتحادية في الدعوى المقامة عن تصدير نفط إقليم كردستان دون موافقة الحكومة العراقية وبمبلغ مقداره (128) مليار دولار.
[11] – ينظر المواد (5) و(13) و(14) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005.