ابحاث ودراساتسلايدر
(التطبيع)…التصوير والتصدير
الدكتور
أنور سعيد الحيدري
صور الإعلام الغربي والإسرائيلي إقامة علاقات دبلوماسية بين الإمارات العربية المتحدة والبحرين من جانب، والكيان الإسرائيلي من جانب آخر، على أنه (تطبيع)، ثم قام بتصديره إلى العالم العربي وفق هذا التصوير. فسارعت وسائل الإعلام العربية بتداول مفردة التطبيع وكأنها حقيقة مسلمة. وحتى المعارضين لمسارات إقامة هكذا علاقات تداولوا المفردة ذاتها دون التمحيص في مضمونها ودلالاتها. فالتطبيع (normalization ) هو ليس إقامة علاقات دبلوماسية بين بين بلدين أو أكثر، بل تجاوز ذلك الى إيصال العلاقات لمستوى وثيق من الترابط الثقافي والفكري والاجتماعي، فضلا عن الاقتصادي. وهو ما وصلت اليه أورپا بعد ان اجتازت مخلفات الحرب العالمية الثانية وتبعاتها.
قد يبدو تصوير مفردة التطبيع ضروريا من الناحية الإعلامية للكيان الإسرائيلي وهو يصدرها إلى الغرب في اعلان واضح عن انتهاء حالة الصراع العربي- الإسرائيلي التاريخية، وها هي البلدان العربية تتجه نحو التطبيع معه بعد غدا أن جزء (طبيعيا) من نسيج المنطقة اجتماعيا وجغرافيا.
ولكن هل للكيان الإسرائيلي استخدام مفردة أخرى غير التطبيع؟
يبدو أن الإعلام الإسرائيلي كان ناجحا وموفقاً في تصوير هذه المفردة وتصويرها دون سواها. فلو استخدم مثلا مفردة (سلام)، فالعالم كله يشهد أن البلدان العربية لم تخض حربا مع الكيان الإسرائيلي عدا دول الطوق العربية والعراق. وأن المعاهدتين مع مصر ١٩٧٩، والأردن ١٩٤٩، كانتا معاهدتا سلام كون البلدين دخلا في حروب مع الكيان الإسرائيلي كانت أطولها وأشدها مع مصر (١٩٤٨، السويس ١٩٥٦، حزيران ١٩٦٧، الاستنزاف ١٩٧٠، تشرين ١٩٧٣). فأين هي الحروب التي خاضتها الدول الخليجية مع الكيان الإسرائيلي؟
وإذا ما استخدم عبارة (إقامة علاقات دبلوماسية)، فإن الكيان الإسرائيلي منذ قيامه عام ١٩٤٨م يقيم علاقات دبلوماسية مع دول عدة. ثم أن معظم دول العالم تقيم علاقات دبلوماسية مع بعضها البعض، فما الجديد في الأمر؟ بينما تأتي مفردة (التطبيع) ومعها بريقها الإعلامي وتوقيتها الانتخابي، ومستوى الموقعين عليها، وكأنها حدث تاريخي يشهده البيت الأبيض على قمة الهرم فيه، في حين ان إقامة العلاقات الدبلوماسية يقوم بتنفيذها موظفين في وزارة الخارجية لأية دولة بعد اتخاذ الدولتين لقرار سياسي في ذلك، كما أن إقامة علاقات دبلوماسية بين الكيان الإسرائيلي وموريتانيا لم يأخذ ذلك الحيز الكبير من اهتمام الرأي العام العربي، فضلا عن العالمي.
والكيان الإسرائيلي يعلم جيدا أن لا مشكلة للنظام الرسمي العربي معه تستوجب الصراع، وإن الحروب العربية- الإسرائيلية كان سببها ضغط الشعوب العربية على حكامها بالدرجة الأساس. ومع ضبط مسار إيقاع الصراع بوسائل شتى، فإن الشعوب العربية ظلت رافضة للكيان الإسرائيلي ككل، وليس للتطبيع معه فحسب. وهنا عمل الكيان الإسرائيلي بالتعاون مع الولايات المتحدة على الاستفادة من بعض الخصائص الاجتماعية والسياسية في البلدان العربية لصرف أنظار الشعوب العربية عن القضية الفلسطينية، وإشغالها بقضايا أخرى، ونجح في ذلك إلى حد كبير.
كما ادرك الكيان الإسرائيلي أن معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية لم تؤد إلى تطبيع بين الشعب المصري والكيان الإسرائيلي، بل أن كل ما تم التوصل إِلَيهِ هو (سلام بارد) على المستوى الرسمي. وهو ما تم تسجيله عبر ملاحظات عدة لعل من بينها:
– لم تنفتح الحدود الاجتماعية، ولم يتم تبادل الزيارات على المستوى غير الرسمي، بل حتى أن الوفود السياحية الإسرائيلية إلى مصر، كان ينظر لها شعبيا على انها وفود تجسسية، او ناشرة للفساد، وكانت مثار شك وريبة، لا محل ترحيب وارتياح.
– أدرك الشعب المصري زيف الوعود التي قدمت له من الحكومات الموقعة على الاتفاقية، حول سلام وتطبيع يؤدي إلى ازدهار ورفاهية حين تحول أموال الحرب إلى البناء والاقتصاد. فهو قد ازداد فقرا، في وقت غدت فيه عوائد بعض المشاريع الاستثمارية تصب في صالح المستثمرين الأجانب، والفاسدين من حواشي النظام.
– وإذا كان الإعلام احدى أدوات التطبيع، فإن الإعلام المصري- وهو الأول عربيا- استمر في نقل صورة سلبية عن الكيان الإسرائيلي عبر برامجه ومسلسلاته وأفلامه، ومنها على سبيل المثال: مسلسل رأفت الهجان، وفلم السفارة في العمارة، وأغنية (أنا بكره إسرائيل) للمطرب الشعبي البارز شعبان عبد الرَحيم، وغير ذلك الكثير من الأعمال الفنية والإعلامية. مقابل فعاليات ونشاطات إعلامية أخرى تمجد تاريخ مصر في حروبها وصراعها مع الكيان الإسرائيلي، وهي سمة تكاد تكون شاخصة وبارزة في معظم نتاجات الفن والأدب والإعلام المصري.
– محاولة الكيان الإسرائيلي- وعلى مدى ثلاثين عاما- في الحصول على زيارة واحدة فقط من الرئيس المصري الراحل حسني مبارك للكيان الإسرائيلي، بيد أنه لم يفلح في ذلك. فمع ميول الرئيس مبارك وتوجهاته الغربية، إلا أنه كان يدرك تماما أن زيارة واحدة منه إلى الكيان الإسرائيلي تستهلك الكثير من رصيده الشعبي ووزنه الاعتباري.
– قراءة الكيان الإسرائيلي لاستبيانات واستطلاعات الرأي العام المصري التي اثبتت رفض غالبيته للتطبيع معه.
– وحتى بعد سقوط نظام الرئيس مبارك، فقد تمكن الكيان الإسرائيلي من قراءة رؤية الشارع المصري السلبية تجاهه، سيما بعد اكتشاف بعض التفاصيل التي كانت سرية، ومن بينها تزويد الكيان الإسرائيلي بالنفط المصري، وبأسعار تفضيلية.
ويبدو أن هذه الملاحظات والكثير غيرها هي التي دفعت الكيان الإسرائيلي إلى التفكير بإعادة مصر إلى حكم العسكر كي يتمكنوا من ضبط إيقاع الشارع المصري قبل أن يستكمل مسار التحول الديمقراطي المدني فيها.
أما الأردن، فلم يكن مسار (التطبيع) معه أفضل من مصر. فلم تنشأ أية علاقات ثقافية واجتماعية، وظلت الرؤية إلى السياح الإسرائيليين ذاتها، فضلا عن عدم جدواها الاقتصادي. ناهيك عن استغلال الكيان الإسرائيلي للأراضي الأردنية لإنشاء مصانع مضرة بالبيئة، ولا تستخدم الأيدي العاملة الأردنية. وبعد ربع قرن على (وادي عربة)، يعلن الكيان الإسرائيلي عن خطوة لضم غور الأردن، وسلب سدانة الأقصى عن العرش الهاشمي، ومحاولة تحويل الأردن إلى وطن بديل للاجئين الفلسطينين.
لربما لو قيض لأبرز زعماء اليسار الإسرائيلي، الرئيس الراحل (شيمون بيريز) أن يقود مسار التطبيع، لربما كان الوضع مختلفا عن قيادة زعيم اليمين الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو)، ولكن ليس على نحو جذري.
فـ (بيريز)، هو صاحب فكرة التطبيع ضمن خطوط عامة تأخذ مسارا تدرجيا عبر الزمان منها:
– اعتماد مبدأ (الأرض مقابل السلام).
– إيمانه بأن (إسرائيل الكبرى) من الفرات إلى النيل غير قابلة للتحقيق عمليا، وان استبدال (من الفرات إلى النيل) بـ (من المحيط إلى الخليج) ممكن اذا ما بدأ بانسحاب إسرائيلي من غزة وأريحا أولا.
– بعدها تبدأ خطوة إقامة العلاقات الدبلوماسية كمدخل للتطبيع.
– ما بين السلام والعلاقات الدبلوماسية وبين التطبيع هناك مرحلة تسمى (الجيرة الحسنة).
– خلال تلك المرحلة يجري خلق وإيجاد وزرع مفاهيم جديدة في وعي شعوب المنطقة، فليس هناك عرب ويهود بينهما صراع، بل هناك سنة وشيعة وكرد ودروز وعلويين وشركس ومارونيين وأرمن وأرثوذكس وسريان وكلدان وآشوريين وترك وغيرهم، ويمكن لليهود أن يعيشوا بسلام بينهم.
– وبيريز هو صاحب أطروحة الشرق الأوسط الكبير القائمة على تطبيع يرتكز على اقتصاد إقليمي مترابط مشترك، يفعله راس المال الخليجي، والأيدي العاملة المصرية والعربية، ويقوده التفوق التقني الإسرائيلي، “لقد جرب العرب قيادة مصر للشرق الأوسط خمسين عاما، ليجربوا قيادة إسرائيل هذه المرة”،- حسب تعبيره.
– ومن خطوات التطبيع التي قام بها- على سبيل المثال- هي أنه حين زار قطر عندما أصبح رئيسا، كان لقاؤه مع طلبة جامعة قطر، وهو يحدثهم عن السلام، والمستقبل، وفرص العمل، والاقتصاد المزدهر، والرفاهية، ومزايا العمل المشترك، وغيرها من مفاهيم التطبيع.
ولكن ما تقدم مختلف تماما مع طروحات وتصورات خليفته في رئاسة الحكومة (بنيامين نتنياهو)، وريث عقلية الـ (گيتو) اليهودية، وحامل فكرة (الجدار الحديدي) التي طرحها سلفه الفكري والتنظيمي (جابوتنسكي). والقائمة على بناء حائط صد حديدي يضمن التفوق الإسرائيلي على العرب قبل الدخول في أي مفاوضات معهم، وهو ما يفسر رفض الكيان الإسرائيلي لما سميت بمبادرات السلام العربية التي اطلقها أمراء آل سعود- (مبادرة الأمير فهد عام ١٩٨٢، ومبادرة الأمير عبد الله عام ٢٠٠٢، والتي اقرتها الجامعة العربية)- كونها تتضمن تنازلات إسرائيلية.
لقد استبدل (نتنياهو) مبدأ (الأرض مقابل السلام) بـ (السلام مقابل السلام). واستخدم (التضليل) للوصول إلى (التطبيع)، مستفيدا من الدبلوماسية الرقمية، ومستغلا الوعي العربي الجانح نحو التسطيح. ومتمسكا برؤيته لصورة العربي “العدواني الغادر” الذي يجب ان يخضع بالقوة، ومصدرا لها.
ولنتذكر أن صعود (نتيناهو) إلى موقع رأس الهرم السياسي في الكيان الإسرائيلي لأطول مدة في تاريخ الكيان، لم يأت عبر انقلاب عسكري، أو مؤامرة خططت لها أطراف إقليمية ودولية، بل هو نتاج طبيعي لما أفرزه المجتمع الإسرائيلي الجانح نحو اليمين.
فإذا كان نتنياهو والكيان الإسرائيلي جادين في التطبيع فعلا، لكان الأولى بهم النجاح في التطبيع مع الفلسطينيين قبل غيرهم، بل التطبيع مع المواطنين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية من غير اليهود، بدل إقرار قانون (يهودية الدولة)، الذي يجعل من “إسرائيل””دولة” لليهود فقط لا لجميع مواطنيها كما شأن معظم دول العالم.
ولكن من الصعب أيضا على نتنياهو والمجتمع الإسرائيلي عموما، الخروج إلى (التطبيع) مع العرب وهو يحمل عقيدة (التفوق اليهودي)، وعقيدة (الشعب المختار) المفضل على (الگوييم/ الأغيار)، في مجتمع يجنح نحو اليمين، ويستظل بالأصولية اليهودية، ويتداول طروحات مؤسس الأصولية الصهيونية الحاخام الأكبر الأشكنازي (كوك) وهو يتحدث عن الأغيار الذين خلقوا من أنفس البهائم، والحاخام الأكبر السفاردي (عوفاديا يوسف)، وهو يردد في صلاته دعاءه إلى ربه: “صب غضبك على الأغيار”، واصفا العرب بالافاعي والحيوانات، ومكررا قوله: “إن الله يندم كل يوم لأنه خلق ذرية لإسماعيل”…