ابحاث ودراساتسلايدر
الدولة واللادولة في العراق/ الجزء13
إشكاليات احتكار المناصب السيادية والأمنية الرفيعة من مزدوجي الجنسية المكتسبة
د.مصدق عادل طالب
كلية القانون- جامعة بغداد
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
تُعد المناصب السيادية أو الأمنية الرفيعة من أهم الأدوات التي تحقق بها أي حكومة تطلعاتها وأهدافها في تحقيق السيادة الوطنية، مستندة في ذلك إلى المعيار الأساسي للمواطنة المتمثل بـ(الجنسية)، باعتبارها رابطة الدم المنحدر من الأب أو الأم التي تثبت انتماء الشخص لدولة معينة وولائه المطلق لها.
وعلى الرغم من اعتماد الجنسية الأصلية للمواطن في تسنم المناصب السيادية والمهمة في غالبية الدول، والاستثناء هو اعتماد جنسية الإقامة أو الموطن، غير أنه يلاحظ قلب هذا المعيار وعدم تطبيقه في الواقع العملي العراقي، وعدم التعويل على الجنسية الأصلية في تسنم هذه المناصب، بالشكل الذي جعل مناصب الرئاسات الثلاثة حكراً على مزدوجي الجنسية، بل وحرمان المواطن المتمتع بالجنسية العراقية الأصلية المنحدرة من الدم و المقيم إقامة دائمية في العراق من هذه المناصب، وهو الأمر الذي أدى الى نشوء (عرف دستوري معدل) يقضي باحتكار مناصب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب واقتصار شاغليها من مزدوجي الجنسية فقط.
وينطبق الحكم ذاته بالنسبة لغالبية الوزراء ورؤساء الهيئات المستقلة وبعض أعضاء مجلس النواب دون حسيب أو رقيب.
وعلى الرغم مما يتراءى لنا لأول وهلة عدم وجود تعارض هذا السلوك السياسي غير المنضبط مع النصوص الدستورية والقانونية العراقية النافذة، غير أنَّ هذا القول غير صحيح على اطلاقه، إذ تقف وراء هذه الظاهرة العامة والشائعة في العراق العديد من الأسباب أهمها: محاولة بعض الدول الاستمرار في تدويل ملف العملية السياسية العراقية، وفتح الطريق على مصراعيه أمام التدخلات الدولية والإقليمية في الشأن الداخلي العراقي تحت حجج واعذار متعددة كالتعاون والاستثمار وغيره من صور الدعم، كما أنَّ وصول مزدوج الجنسية إلى سدة الحكم في العراق يعني بالضرورة ضمان استمرار المصالح الاستراتيجية للدولة التي يحمل المسؤول جنسيتها، وعدم صول التقاطع المستقبلي معها لأي سبب كان، وهو الأمر الذي قد يعني بالضرورة – في بعض الأحيان- إلى تغليب مصلحة الدولة الأجنبية على المصلحة الوطنية العراقية، يستوي في ذلك أنْ يكون بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
فضلاً عن ذلك فإنَّ تسنم مزدوج الجنسية للمنصب السيادي أو الأمني الرفيع تقف ورائه أسباب قانونية مهمة، وهي: عدم إمكانية استكمال الإجراءات القانونية وتنفيذ الحكم الجنائي الصادر ضده في حالة ادانته بقضايا الفساد من المحاكم العراقي إلا في حالات نادرة ومعدودة، مما يساهم في توسيع وانتشار ظاهرة الفساد السياسي والمالي والإداري المستشري في العراق بدل مكافحته واستئصاله[1]، وبالأخص إذا ما علمنا إمكانية شمول مزدوج الجنسية بطلب الدولة الثانية التي ينتمي إليها بجنسيته لغرض اجراء محاكمته من قبلها (الدولة الثانية) عن الجريمة التي ارتكبها في العراق اثناء تسمنه المنصب السيادي أو الأمني أو بسببه، ولهذا نجد تكالب الدول الأجنبية على ارسال مواطنيها اللاجئين من المتمتعين بالجنسية العراقي، وإعادتهم إلى العراق من اجل تسنم هذه المناصب، وهو الأمر الذي أدى الى شيوع ظاهرة هيمنة مزدوجي الجنسية على غالبية المناصب السيادية والأمنية الرفيعة في العراق.
أما بالنسبة إلى الموقف الدستوري فإنه بالرجوع الى دستور جمهورية العراق لسنة 2005 نجد أنه عالج هذا الموضوع بصورة تفصيلية، اذ تنص المادة (18) منه على انه (رابعاً: يجوز تعدد الجنسية العراقية وعلى من يتولى منصباً سيادياً أو امنياً رفيعاً التخلي عن اية جنسية أخرى مكتسبة، وينظم ذلك بقانون).
يتضح من النص أعلاه اعتناق العديد من المبادئ، إذ يتمثل أولها في مبدأ تعدد الجنسية، ومن ثم فلا يمكن حرمان مزدوج الجنسية من تسنم المناصب السيادية أو غيرها تطبيقاً للنص أعلاه، ولمبدأ المساواة امام القانون المنصوص عليه في المادة (14) من الدستور.
فيما يتمثل ثاني المبادئ في وجوب عدم استمرار مزدوج الجنسية في المنصب السيادي أو الأمني الرفيع الا بعد التخلي عن الجنسية المكتسبة، وعلى الرغم من وضوح النص غير أنه يُلاحظ في التطبيق العملي عدم تخلي أي من الرئاسات الثلاثة أو الوزراء أو أعضاء مجلس النواب المتمتعين بالجنسية المزدوجة عن جنسيتهم الثانية المكتسبة، يستوي في ذلك المستمرين في المنصب حالياً أو السابقين، إذ لم يصار الى اتخاذ أي إجراءات قانونية أو شعبية ضدهم، أو المطالبة بتطبيق النص الدستوري بصورة مباشرة القاضي بالإقصاء من المنصب في حالة عدم إزالة هذا المحذور والتخلي عن الجنسية المكتسبة كما يستوجبه النص الدستوري الصريح.
أما المبدأ الثالث الذي تضمنته هذه المادة فيتمثل في وجوب تنظيم التخلي عن الجنسية المكتسبة بقانون، ويلاحظ بهذا الصدد قيام بعض أعضاء مجلس النواب عام 2009 بتقديم مقترح قانون التخلي عن الجنسية المكتسبة، ولم يتم تمريره آنذاك، كما قام مجلس الوزراء العراقي بإعداد مشروع قانون ثاني للتخلي عن الجنسية المكتسبة عام 2013 وارساله إلى مجلس النواب، غير أنَّ الأخير لم يقم بالتصويت عليه وتمريره رغم إعادة طرحه مجدداً على طاولة مجلس النواب عام 2018، مما يعني تعمد الحكومة ومجلس النواب في افشال تمرير قانون التخلي عن الجنسية العراقية لأسباب دولية وسياسية، تصب في نهاية المطاف إلى استمرار الهيمنة الدولية على السياسة العامة العراقية وتوجيه مسار العملية السياسية في العراق خلافاً لمتطلبات الاستقلال التي نادت به المواد (1) و(50) و(109) من الدستور.
ولقد اكد قانون الجنسية العراقية رقم (26) لسنة 2006 الأحكام المذكورة أعلاه، إذ تنص المادة (9) منه على أنه (أولاً: يتمتع غير العراقي الذي يحصل على الجنسية العراقية بطريق التجنس وفقاً لأحكام المواد ( 4 ، 5 ، 6 ، 7 ،11 ) من هذا القانون بالحقوق التي يتمتع بها العراقي إلا ما استثني منها بقانون خاص .
ثانياً: لا يجوز لغير العراقي الذي يحصل على الجنسية العراقية بطريق التجنس وفقا لإحكام المواد (4، 6، 7، 11) من هذا القانون أن يكون وزيراً أو عضوا ًفي هيئة برلمانية قبل مضي عشر سنوات على تاريخ اكتسابه الجنسية العراقية.
ثالثاً: لا يجوز لغير العراقي الذي يحصل على الجنسية العراقية وفقاً لأحكام المواد (4، 6 ، 7 ، 11 ) من هذا القانون أن يشغل منصب رئيس جمهورية العراق ونائبه.
رابعاً: لا يجوز للعراقي الذي يحمل جنسية أخرى مكتسبة أن يتولى منصباً سيادياً أو امنياً رفيعاً إلا إذا تخلى عن تلك الجنسية).
ولم يقتصر الامر عند مجرد الامتناع عن تمرير مشروع قانون التخلي عن الجنسية المكتسبة لشاغلي المناصب السيادية والأمنية الرفيعة في العراق رغم أنه يشكل انتهاكاً دستورياً صريحاً للمادتين (18/رابعاً) و(50) و(79) من الدستور، بل تعداه الأمر تعويم مصطلح (المناصب السيادية) و(المناصب الأمنية الرفيعة) من قبل الرئاسات الثلاثة، وبمباركة المحكمة الاتحادية العليا، إذ سبق وأنْ تم طرح موضوع الطعن بعدم دستورية تسنم شاغل المنصب السيادي من مزدوج الجنسية عام 2018، فما كان من المحكمة الاتحادية إلا أنْ أصدرت العديد من القرارات ومنها القرار المرقم 166/اتحادية/2018 والمرقم 195/اتحادية/ 2019 الصادرين في 28/1/2019، واللذان تضمنا الحكم برد الدعوى المقدمة مستندة للعديد من الأسس أهمها: عدم صدور قانون التخلي عن الجنسية المكتسبة، ومن ثم عطلت النص الدستوري وهو المادة (18/رابعاً) من الدستور بالاستناد إلى هذه الحجة (غير الدستورية وغير القانونية).
وفضلاً عما تقدم فلقد افتت المحكمة الاتحادية العليا بقرارها التفسيري رقم 100/اتحادية/2013 الصادر في 19/1/2015 (لدى التدقيق والمداولة من المحكمة الاتحادية العليا وجد أنَّ تعبير (المنصب السيادي) أو (الأمني الرفيع) الذي تنص عليه المادة (18/رابعاً) من الدستور مناط تحديده إلى التوجيهات السياسية في العراق، والقائمون عليها هم من يحدد هذه المناصب ومدى تأثيرها على السياسة العامة للدولة وتنظم مدلولاتها وفقاً لذلك القانون).
وبهذا الغموض جعلت المحكمة الاتحادية العليا مسألة تعطيل النص الدستوري يستند إلى تفسيرها المغلوط المتمثل بتغليب النص القانون على النص الدستوري، ضاربة مبدأ سمو الدستور المنصوص عليه في المادة (13) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 عرض الحائط، ومتجاهلة التحديد الدستوري الأولي للمناصب السيادية والأمنية الرفيعة بالاستناد إلى معيار (وحدة النصوص الدستورية وتكاملها)، إذ إنَّ تعبير المنصب السيادي والأمني الرفيع يمكن تحديده بصورة ضمنية في العديد من الإشارات الواردة في الدستور ومنها المادة (61/خامساً) و(80/خامساً) من الدستور التي اشارت إلى مناصب سيادية منها (رئيس وأعضاء محكمة التمييز الاتحادية ورئيس الادعاء العام ورئيس هيئة الاشراف القضائي والسفراء وأصاب الدرجات الخاصة ورئيس اركان الجيش ومعاونيه وقائد الفرقة ومن بمنصبه ورئيس جهاز المخابرات).
وفي الوقت نفسه يمكن الاستناد إلى المادة (127) من الدستور في تحديد شاغلي المناصب السيادية والأمنية وهم كلاً من رئيس الجمهورية، ورئيس وأعضاء مجلس الوزراء، ورئيس مجلس النواب ونائبيه وأعضاء المجلس، وأعضاء السلطة القضائية، وأصحاب الدرجات الخاصة.
وفضلاً عن ذلك كان بإمكان المحكمة الاتحادية العليا أنْ تستند إلى المعيار القانوني المنصوص عليه في قانون هيئة النزاهة والكسب غير المشروع رقم (30) لسنة 2011 المعدل وتحدد شاغلي المناصب السيادية والأمنية بالاستناد إلى الأشخاص المكلفين بكشف استمارة كشف الذمة المالية المحددين في المادة (16) من هذا القانون وهم كلاً من (رئيس الجمهورية ونوابه- رئيس ونائبا رئيس وأعضاء مجلس النواب – رئيس ونواب رئيس مجلس الوزراء والوزراء ومن بدرجتهم- أعضاء مجلس الاتحاد- رئيس مجلس القضاء الأعلى والقضاة وأعضاء الادعاء العام- رئيس وأعضاء المحكمة الاتحادية العليا- رئيس الإقليم- رئيس وأعضاء مجلس نواب الإقليم- رئيس حكومة الإقليم والوزراء فيه- مسؤولو الهيئات المستقلة ونوابهم- وكلاء الوزراء ومن يتقاضى راتب وكيل وزارة – أصحاب الدرجات الخاصة والعليا- رؤساء وأعضاء مجالس المحافظات المنتظمة في إقليم وغير المنتظمة في إقليم – المحافظون ونوابهم ومعاونوهم ومستشاروهم والقائممقامون ومديرو النواحي- مديرو الدوائر كافة في المحافظات غير المنتظمة في إقليم- رؤساء الجامعات الحكومية والأهلية وعمداء الكليات- المديرون العامون ومن بدرجتهم- الضباط من رتبة مقدم فما فوق في التشكيلات العسكرية والأمنية كافة وضباط الاستخبارات في الأفواج صعوداً ومديرو الدوائر الأمنية من غير حاملي الرتب.
وبناء على ما تقدم فالتساؤل الذي يثار بهذا الصدد: من هي الجهة المسؤولة عن عدم تطبيق النص الدستوري المتضمن وجود قيام شاغل المنصب السيادي والأمني الرفيع بالتخلي عن الجنسية المكتسبة، ومن هي الجهات المستفيدة التي تقف وراء ذلك؟
وهل أنَّ الولاء الوطني أصبح حكراً على مزدوجي الجنسية ممن هم حاملي للجنسية المكتسبة في اشغال المناصب السيادية والأمنية الرفيعة؟
وهل أنَّ حملة مكافحة الفساد ستؤتي نتائجها الملموسة في مواجهة مزدوجي الجنسية واخضاعها للقانون العراقي وبالأخص في حالة مطالبة الدولة التي ينتمي اليها ويحمل جنسيتها المكتسبة شاغل المنصب السيادي والأمني الرفيع في العراق رغم إمكانية اخضاعه للمحاكمة امام المحاكم العراقية؟
وإزاء ما تقدم فإننا ندعو رئيس مجلس الوزراء باعتباره المسؤول التنفيذي الأول عن السياسة العامة للدولة العراقية وفق المادة (78) من الدستور إلى توجيه اعمام إلى جميع الوزارات والهيئات والجهات غير المرتبطة بوزارة بضرورة تطبيق النص الدستوري وهو المادة (18/رابعاً) من الدستور بصورة مباشرة، دون انتظار تشريع القانون الذي ينظم مسالة التخلي عن الجنسية المكتسبة وبالأخص في ظل تراخي مجلس النواب عن تشريع هذا القانون الاستراتيجي المهم.
كما ندعو في الوقت ذاته كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب والوزراء وشاغلي المناصب العسكرية والأمنية وشاغلي الدرجات الخاصة المستمرين بالخدمة بالظهور العلني والاعلان للشعب العراقي باعتباره مصدر السلطات وشرعيتها وفق المادة (5) من الدستور التنازل عن الجنسية الثانية المكتسبة خلال مدة (30) يوماً، وبخلافه يتوجب تطبيق النص الدستوري الذي اوجب التخلي كشرط من شروط الاستمرار بالمنصب.
كما ندعو الشعب العراقي باعتباره مصدر السلطات وشرعيتها إلى استرداد المناصب السيادية والأمنية الرفيعة اللصيقة بالولاء الوطني والانتماء للعراق، والمطالبة برفع شعار (مناصب العراقيين السيادية والأمنية الرفيعة للعراقيين المتمتعين بالجنسية الأصلية حصراً)، وفي حالة الرغبة باستمرار شاغلي هذه المناصب في مناصبهم الحالية فيتوجب أنْ يقدم المستفيد تعهداً خطياً يتضمن تحديد مدة زمنية لا تتجاوز (30) يوماً لاستكمال إجراءات التخلي، وبخلافه يصار الى اقصائهم من المنصب لعدم توافر الشروط الدستورية والقانونية.
ونهيب بلجان التعديلات الدستورية إلى تعديل نص المادة (18/رابعاً) من الدستور وإلغاء مصطلح المصطلح السيادي وحصر مناصب المدير العام صعوداً بحاملي الجنسية العراقية الاصلية وعدم التمتع باي جنسية مكتسبة ثانية من اجل ضمان الولاء للوطن والمواطن، فضلاً عن توسيع المنع الدستوري في تسنم هذه المناصب ليشمل الجنسية الاصلية والمكتسبة الثاني على حد سواء.
كما ندعو مجلس النواب باعتباره ممثل الشعب العراقي وفق المادة (14/اولاً) من الدستور الى ممارسة دوره التشريعي والرقابي في تفعيل المسائل المرتبطة بالسيادة العراقية الوطنية في ضوء المعيار الوطني الذي أشار اليه الدستور وهو وجوب تخلي شاغل المنصب السيادي أو الأمني الرفيع عن جنسيته المكتسبة، وادراج (مشروع قانون التخلي عن الجنسية المكتسبة) الذي تم قرائته في الدورات النيابية السابقة على جدول اعمال مجلس النواب للتصويت عليه في هذا الفصل التشريعي من اجل تحقيق متطلبات الدولة الحديثة التي يطبق فيها سيادة الدستور والقانون.
[1] – تنص المادة (10/ثانياً) من قانون الجنسية العراقية رقم (26) سنة 2006 على انه (تطبق المحاكم العراقية القانون العراقي بحق من يحمل الجنسية العراقية وجنسية دولة أجنبية).