ابحاث ودراساتسلايدر
الدولة واللادولة في العراق/ الجزء8
تشكيل المحكمة بين مطرقة مشروع رئيس الجمهورية وسندان الانتهاكات الدستورية لمجلس النواب
الدكتور مصدق عادل
كلية القانون – جامعة بغداد
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
بعد تعطيل المحكمة الاتحادية العليا منذ شهر آذار 2020 نتيجة صدور قرار الهيئة العامة لمحكمة التمييز الاتحادية المُرقم 4/5 الهيئة العامة/2010 في 17/3/2020 والمتضمن الزام رئيس الجمهورية بإلغاء المرسوم الجمهوري رقم (4) الصادر في 20/1/2020 بتعيين القاضي (محمد رجب الكبيسي) عضواً أصلياً في المحكمة خلافاً للدستور والقوانين النافذة، فقد ارتأى مجلس النواب ابتداء جلساته بتجسيد مشهد بارز من مشاهد اللادولة في العراق، إذ أعاد مجلس النواب إحياء (التشكيل غير الدستوري للمحكمة الاتحادية العليا) المنصوص عليه في قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لسنة 2004 (الملغى)[1] والذي تم التأكيد عليه في قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم (30) لسنة 2005[2]، وذلك من خلال درج (مشروع قانون تعديل قانون المحكمة الاتحادية العليا) على جدول أعمال مجلس النواب في جلسته المنعقدة يوم 5/9/2020 والمقدم من رئيس الجمهورية، ضارباً عرض الحائط نصوص الدستور ومنها المادة (92/ثانياً) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 التي تنص على أنه (ثانياً: تتكون المحكمة الاتحادية العليا من عدد من القضاة وخبراء في الفقه الإسلامي وفقهاء القانون يحدد عددهم وتنظم طريقة اختيارهم وعمل المحكمة بقانون يسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب).
وبهذا يتضح وجود انتهاك دستوري مزدوج لنصوص الدستور من حيث الفكرة العامة لمشروع القانون، إذ يتمثل أول هذه الانتهاكات في قيام رئيس الجمهورية بتقديم مشروع القانون، خلافاً لما تنص عليه المادة (60/اولاً) من الدستور التي توجب اشراك كلاً من رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء مجتمعين في تقديم مشروعات القوانين، وليس انفراد رئيس الجمهورية بذلك، إذ تنص على أنه (أولاً: مشروعات القوانين تقدم من رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء).
وعلى الرغم من هذا الانتهاك قام رئيس مجلس النواب وبموافقة نائبيه بإدراج مشروع القانون على جدول أعمال المجلس لهذا اليوم دون عرضه على أنظار مجلس الوزراء ومجلس الدولة كما يوجبه نص المادة (60/اولاً) من الدستور، وقانون مجلس شورى الدولة رقم (65) لسنة 1979 المعدل بقانون مجلس الدولة رقم (71) لسنة 2017 لغرض تدقيقه.
فيما يتمثل الانتهاك الدستوري الثاني في قيام مجلس النواب بعدم الالتزام بالمادة (92/ثانياً) من الدستور، معتمداً على الحيلة القانونية المتضمنة تعلق هذه المادة بالقانون الجديد للمحكمة، وليس تعديل القانون الحالي للمحكمة (غير الدستوري)، مستنداً على بعض التفسيرات السياسية المغلوطة المتعلقة بالمادة (130) من الدستور[3].
وهو الأمر الذي لا يشفع لمجلس النواب قفزه على نصوص الدستور وانتهاكها على مسمع ومرأى من الشعب العراقي باعتباره مصدر السلطات، إذ جاءت المادة (92/ثانياً) المتعلقة بتشكيل المحكمة بصورة مطلقة، والقاعدة القانونية تقضي بأنَّ النص المطلق يجري على اطلاقه طالما لم يرد نص يقيده، وحيث لم يرد أي إشارة من قريب أو بعيد الى إمكانية قيام مجلس النواب بتعديل القانون (غير الدستوري) للمحكمة من أجل إضفاء الصفة الدستورية عليه، لذا فإنَّ مجلس النواب قد تعمد الانتهاك الدستورية الصريح لنصوص الدستور، إذا ما علمنا أنه تم استكمال القراءة الثانية لمشروع قانون المحكمة الاتحادية العليا من قبل مجلس النواب بتاريخ 26/5/2019، ومن ثم فلا يجوز لمجلس النواب أنْ يجزئ نصوص الدستور، أو يلتزم ببعض النصوص وينتهك البعض الآخر منها كونها وحدة واحدة متجانسة.
ونزولاً على ما تقدم فمن استقراء نصوص مشروع قانون تعديل قانون المحكمة الاتحادية العليا الذي تمت قرائته الأولى لجلسة مجلس النواب يوم 5/9/2020 نجد أنَّ المادة (1) منه تنص على أنه (اولاً: تتكون المحكمة الاتحادية العليا من رئيس ونائب الرئيس و(7) أعضاء أصليين و(3) أعضاء احتياط يتم اختيارهم من بين قضاة الصنف الأول ممن لا تقل خدمته الفعلية في القضاء عن (20) عشرين سنة. ثانياً: تتولى المحكمة الاتحادية ومجلس القضاء الأعلى بالتنسيق مع مجلس قضاء الإقليم اختيار رئيس المحكمة ونائبه والأعضاء من بين القضاة المرشحين وترفع أسماؤهم إلى رئيس الجمهورية لإصدار المرسوم الجمهوري بالتعيين).
ومن امعان النظر في هذه المادة نجد احتوائها على العديد من المخالفات الدستورية التي يمكن إجمالها بالآتي:
1- إنَّ البند (اولاً) من هذه المادة قد نص على تشكيل المحكمة من القضاة فقط، منتهكاً بذلك المادة (92/اولاً) من الدستور التي اوجبت مراعاة التشكيل الثلاثي للمحكمة من “القضاة” و”فقهاء القانون” و”خبراء الفقه الإسلامي”، لذا يُعد هذا البند من المادة أعلاه غير دستوري.
2- إنَّ البند (ثانياً) من هذه المادة ينتهك الاستقلال الإداري الذي تتمتع به المحكمة الاتحادية العليا، إذ تنص على أنَّ (المحكمة الاتحادية العليا هيئة قضائية مستقلة مالياً وادارياً)، كما يلاحظ أنَّ آلية الاقتراح والتعيين جاءت مكررة للحكم ذاته المنصوص عليه في المادة (3) من قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم (30) لسنة 2005، والذي سبق للمحكمة الاتحادية العليا أنْ حكمت بعدم دستوريتها، وذلك بموجب القرار رقم (38/اتحادية/2019) الصادر في 21/5/2019، لذا فإنَّ تكرار النص على نفس المادة القانونية التي سبق للمحكمة إلغائها والحكم بعدم دستوريتها يُخل بالحجية المطلقة والملزمة لقرارات المحكمة وفق المادة (94) من الدستور، وهو الأمر الذي يمكن معه تحريك الدعوى الجزائية ضد رئيس مجلس النواب/إضافة لوظيفته عن الامتناع عن تنفيذ قرار المحكمة الاتحادية العليا وفق المادة (329) من قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969 باعتباره ممثل المجلس، والناطق باسمه.
3- لم تبين المادة أعلاه آليات اشراك كل من المحكمة الاتحادية العليا ومجلس القضاء في اقتراح التعيين، ولم يصار إلى توضيح مدى جواز الاستمرار بتطبيق مبدأ (تمثيل المكونات في عضوية المحكمة) أم تم العدول عنه تطبيقاً للقرار الصادر من المحكمة الاتحادية العليا في 23 كانون الأول 2019بإنهاء المحاصصة الطائفية والسياسية.
وفضلاً عما تقدم فإنه بالرجوع إلى المادة (2) من مشروع القانون نجد أنها تنص على أنْ (يلغى نص المادة (4) من القانون ويحل محله ما يأتي: المادة 4 تختص المحكمة الاتحادية العليا بالمهام المنصوص عليها في المادة (93) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005).
يتضح من المادة أنَّ مجلس النواب حاول نثر الرماد في عيون المختصين بالقانون والشعب العراقي بمحاولته بعث رسالة أنه يرغب في تصحيح الوضع غير الدستوري في ممارسة المحكمة لاختصاصاتها، على الرغم من أنَّ ابجديات قواعد التفسير تقضي بان النص الأعلى (نص الدستور) يطبق على النص الأدنى (نص القانون)، متغافلاً عن معالجة التشكيل غير الدستوري للمحكمة من جهة، وعن مدة الولاية الدائمة لرئيس وأعضاء المحكمة مدى الحياة على غرار المحكمة العليا الامريكية من جهة أخرى.
أما المادة (3) من القانون فقد حددت صيغة اليمين القانونية اتي يتوجب على رئيس المحكمة ونائبه وأعضائها أدائها أمام رئيس الجمهورية قبل المباشرة بمهامهم.
فيما جاءت المادة (4) من المشروع لتقرر نفاذ هذا القانون من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية.
غير أنه ما يلفت الانتباه هو إشارة الأسباب الموجبة للقانون إلى قرار المحكمة الاتحادية العليا بعدم دستورية المادة (3) من قانون المحكمة، دون أنْ يذكر رقمه وسنته، وهو القرار رقم (38) لسنة 2019، فضلاً عن تكراره لمبدأ الشراكة بين مجلس القضاء والمحكمة الاتحادية العليا في ترشيح قضاة المحكمة الاتحادية العليا.
ويمكن القول أنَّ الحلول الترقيعية الجزئية هي أقصى ما يستطيع مجلس النواب تقديمه في هذه المرحلة الحرجة من مراحل التاريخ السياسي في العراق.
وبهذا فإنَّ مجلس النواب يثبت لنا وللشعب العراقي بجميع اطيافه – يوماً بعد يوم – عدم قدرته على احترام نصوص الدستور والمحافظة عليها من الانتهاك، أو تشريع القوانين التي تلتزم بنصوص الدستور، كما أنَّ مجلس النواب بهذا السلوك غير الدستوري يظهر لنا عدم الالتزام باليمين الدستورية التي سبق وأنْ تم تأديتها وفق المادة (50) من الدستور التي تنص على أنه (التزم بتطبيق التشريعات بأمانة وحياد).
وإزاء ذلك فإنه بالنظر لعدم جدوى مناشدة فخامة السيد رئيس الجمهورية من أجل ممارسته دوره في حماية الدستور المحدد له في المادة (67) من الدستور التي تنص على إن (رئيس الجمهورية …يسهر على ضمان الالتزام بالدستور) باعتباره مقدم مشروع القانون، لذا فإننا ندعو الثلة الوطنية والشريفة من بعض أعضاء مجلس النواب الذين تهمهم مصلحة الوطن والمواطن إلى الاعتراض على هذا المشروع، وعدم التصويت عليه داخل قبة مجلس النواب، لأنهم سيحمّلون الأجيال القادمة ويلات استمرار رئيس وأعضاء المحكمة الحاليين بمناصبهم، رغم انتهاء السن القانوني المحدد للإحالة الى التقاعد وفق قانون التقاعد الموحد رقم (9) لسنة 2014، وقانون تمديد خدمة القضاء رقم (39) لسنة 2012 الذي حدد السن الأعلى لتمديد خدمة القضاة بـ(68) سنة، ورغم مراعاة الاعتبارات السياسية من قبل رئيس المحكمة واعضائها في العديد من القرارات التي أصدروها، ضاربين نصوص الدستور عرض الحائط، ومسطرين مظهراً من مظاهر اللادولة وعدم احترام نصوص الدستور في العراق.
وأمام هذه التحديات الحقيقية التي ستعصف بالعملية السياسية والنظام السياسي العراقي وتساهم في إنهاء هيبة المؤسسات الدستورية من خلال استمرارها في الانتهاكات الدستورية فإنَّ رئيس مجلس الوزراء مطالب بتطبيق المادة (60/اولاً) من الدستور باعتباره مصدر مشاريع القوانين.
كما نطالب في الوقت ذاته الراي العام العراقي – في حالة امتناع رئيس مجلس الوزراء عن الطعن بعدم دستورية هذا القانون- بأنْ يدلي بدلوه باعتبار الشعب مصدر السلطات وشرعيتها وفق المادة (5) من الدستور.
ونلتمس من المرجعية الدينية في النجف الأشرف – التي ساهمت في ذهابنا إلى صناديق الاستفتاء على الدستور في 15 تشرين الأول 2005- أنْ تتدخل لإيقاف هذا الانتهاك الدستوري الخطير، وإلزام مجلس النواب بتفعيل المادة (92/ثانياً) من الدستور المتعلقة باشراك خبراء الفقه الإسلامي في تشكيل المحكمة الاتحادية العليا وبدلالة المادة (2) من الدستور.
وانطلاقاً من المسؤولية الأخلاقية في الحفاظ على مبدأ سمو نصوص الدستور وأحكامه المنصوص عليه في المادة (13) من الدستور فإننا نقول لمجلس النواب أمضي في تشريع هذا القانون غير الدستوري، وسنطعن بعدم دستورية هذا القانون في حالة إقراره بهذه الصيغة البائسة والمنتهكة لنصوص الدستور، ولن يرحمكم التاريخ على هذا الإنجاز الذي جسدتم به مظاهر اللادولة في العراق.
[1] – تنص المادة (44/هـ) من القانون على ان (تتكوّن المحكمة العليا الاتحادية من تسعة أعضاء، ويقوم مجلس القضاء الأعلى أولياً وبالتشاور مع المجالس القضائية للأقاليم بترشيح ما لا يقلّ عن ثمانية عشر إلى سبعة وعشرين فرداً لغرض ملء الشواغر في المحكمة المذكورة، ويقوم بالطريقة نفسها فيما بعد بترشيح ثلاثة أعضاء لكلّ شاغر لاحق يحصل بسبب الوفاة أو الاستقالة أو العزل، ويقوم مجلس الرئاسة بتعيين أعضاء هذه المحكمة وتسمية أحدهم رئيساً لها. وفي حالة رفض أيّ تعيين يرشح مجلس القضاء الأعلى مجموعةً جديدةً من ثلاثة مرشّحين).
[2] – تنص المادة (3) من القانون على أن (تتكون المحكمة الاتحادية العليا من رئيس و(ثمانية) أعضاء يجري تعيينهم من مجلس الرئاسة بناءً على ترشيح من مجلس القضاء الأعلى بالتشاور مع المجالس القضائية للأقاليم وفق ما هو منصوص عليه في الفقرة (هـ) من المادة (الرابعة والاربعين) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية).
[3] – تنص المادة (130) من الدستور على انه (تبقى التشريعات النافذة معمولاً بها، مالم تلغ او تعدل وفقاً لأحكام هذا الدستور).