مركز ستراتفور
ترجمة: ضحى الخالدي
21/8/2020
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
(لكل قرن منظوره الجغرافي الخاص به)
السير هالفورد جي. ماكيندر ، المٌثل الديمقراطية والواقع: دراسة في سياسة إعادة التشكيل (1919)
المنظور-المشهد- الجغرافي للقرن الحادي و العشرين بدأ يتشكل للتوّ. و في القلب منه هناك منافسة –خصومة- بين الصين و الولايات المتحدة لتخلف مركزية أوروبا البالغة 500 عام في النظام الدولي, و التي سيتم تأطيرها بتحول في النشاط الإقتصادي و التجارة العالميين, تنافس على مصادر الطاقة الجديدة, ، وإضعاف أوروبا وروسيا, و معركة تكنلوجية للسيطرة المعلوماتية. الخريطة الجديدة للقرن المقبل ستمتد إلى قاع المحيط للموارد و الكابلات البحرية, و إلى الفضاء حيث الاقمار الصناعية التي تدور في مدارات منخفضة حول الارض تدير الإتصالات, و صولاً إلى النطاق غير المحدد للفضاء السيبراني.
من يقع على محور الجغرافيا الجديدة؟
مع بزوغ فجر القرن الحادي و العشرين, مركزية أوروبا في النظام العالمي بدأت بالتلاشي بالفعل, على الرغم من الثقل الإقتصادي للإتحاد الأوروبي. خلَّف إنهيار الإتحاد السوفييتي روسيا ضعيفة و العديد من الدول المستقلة حديثاً او المستعادة, مما قلَّص بشكل ملحوظ فرص قيام نزاع كبير في اوروبا, و حدَّ من المخاوف إزاء وجود قوة في قلب أوراسيا. كانت الصين على وشك حدوث طفرة اقتصادية هائلة, بعد أن تعافت من القيود العالمية التي أعقبت حادثة ميدان تيانانمن. تجاوزت التجارة عبر الباسيفيك –المحيط الهادي- التجارة عبر الاطلسي بالفعل قبل عدة عقود, والإنتصار الأميركي في الحرب الباردة ترك الولايات المتحدة كهيمنة عالمية على ما يبدو لا يمكن تحديها.
هجمات 11 ايلول- سبتمبر في 2001, الأزمة المالية في 2007-2008 و جائحة COVID-19 الحالية كلها أضعفت الإحساس بأن أميركا لا تقهر. لكن لا يزال يمكن المحاججة بأن الولايات المتحدة ظهرت كمحور للنظام العالمي لهذا القرن الجديد- مفترق الطرق –نقطة التقاطع- بين أوروبا و آسيا, بين الأطلسي و الهادي. فبينما تدير إنعدام الإستقرار السياسي و الإجتماعي داخل أراضيها, تبقى القوة الإقتصادية أو العسكرية الاكبر الوحيدة على الكوكب. وعلى الرغم من الأسى؛ على العكس ، لا تزال هناك ثقافة ابتكارية قوية وحتى قاعدة تصنيع.
عبر الباسيفيك, تقدم الصين نفسها كقلب لجغرافيا القرن الحادي و العشرين. مبادرة الحزام و الطريق الصينية تربط تجمعاً هائلاً للموارد, رأس المال البشري و الأسواق الإستهلاكية في أوروبا, افريقيا و آسيا برياً و بحرياً. تجارتها و نقل أسلحتها تمتد عبر المحيط القطبي الشمالي, المحيط الهادي, و المحيط الهندي, و بشبكة عنكبوتية عبر آسيا و اوروبا. إن حكومة الصين المركزية والنموذج الاقتصادي والقوة العسكرية الناشئة والتعداد السكاني الهائل يضعها في موقع المنافس النِّد للولايات المتحدة. تجلب القوة الاقتصادية والعسكرية المتزايدة نفوذًا سياسيًا, و الصين تسعى بدأب لإعادة تشكيل الأعراف و النظم الدولية لتناسب بشكل أفضل منظورها الجغرافي و مصالحها.
التنافس, لكن ليس الحرب الباردة:
الصين و الولايات المتحدة في صراع على الدور المركزي في نظام دولي, في عالم حيث على الرغم من تجدد القومية الإقتصادية, سيكون الفصل الحقيقي صعبًا ، إن لم يكن مستحيلًا. فصل العالم بالحرب الباردة إلى كتل كان ميسراً بلحظة تأريخية فريدة- ظهور التنافس الوجودي في وقت حيث النظام الدولي نفسه كان ركاماً بعد عقود من الحرب عبر أوروبا و آسيا. بإزالة الإتحاد السوفييتي و حلفائه من النظام الإقتصادي الجديد, فإن الولايات المتحدة لم تنفصل بالضرورة عن روسيا, لكن مجرد أنها حذفتها من الهيكل المالي الجديد.
لا توجد مثل هذه الأزمة لتسهيل كسر الروابط الاقتصادية مع الصين. بينما إعتادت الولايات المتحدة إستخدام العقوبات كـأداة إقتصادية للقسر السياسي, لكن في المعظم كانت ضد الدول الأصغر و غالباً المهمشة منها- ونجاح هذه الإستراتيجية المشددة للعقوبات كان متفاوتًا في أحسن الأحوال. لدى الصين والولايات المتحدة اقتصادات معقدة ومتكاملة بإحكام, ، من 650 مليار دولار في التجارة السنوية إلى حيازات الحافظة والاستثمارات المتبادلة ، وتوريد المواد ، وقطع الغيار والعمالة في سلاسل التوريد. ليس من السهولة لتهديدات قليلة أن تقطعها, ، إنه نسيج معقد يقاوم التمزق.
على العكس من كارثة الحرب العالمية الثانية, فإن النظام الدولي يتآكل من الحواف فقط, و لا يتفكك بصورة كاملة, على الرغم من الازمات الإقتصادية و الجائحة خلال العقدين الاخيرين. ربما تقطع الولايات المتحدة و شركاؤها بعض الخيوط مع الصين, مركزةً بشكل أساسي على التكنولوجيا المتطورة على خلفية مخاوف الأمن القومي, لكنها قد تستغرق عقوداً من تظافر الجهود و المعاناة الإقتصادية لتفكيك الجزء الأكبر من الروابط التجارية.
ستعاد صياغة سلاسل التوريد, سيبدأ التنافس التكنلوجي بتفتيت –تشظي- الفضاء السيبراني, و سيزداد التنافس على المواد الخام الحرجة, ولكن هناك مجالاً ضئيلاً للفصل الكامل للاقتصادات الكبرى، على الرغم من الإحتكاكات –الخلافات- الأميركية- الصينية الحالية أو المخاوف من خروج بريطانيا دون صفقة من الإتحاد الأوروبي.
تحوُّل التصورات الجغرافية
بملاحظة أن لكل قرن منظوره الجغرافي, فإن الجغرافي البريطاني السير هالفورد جَي. ماكيندر قدم ملاحظة مهمة في كتابه, المُثُل الديمقراطية و الواقع: دراسة في سياسات إعادة التشكيل, الصادر في عام 1919: بينما الجغرافيا قد لا تتغير كثيراً بمرور الوقت, لكن إدراك الناس و تفاعلهم معها يفعل ذلك. التكنلوجيا, الهيكل الإقتصادي, و تطور المفاهيم الإجتماعية و الفكرية –الآيديولوجية- كلها تلعب دوراً رئيسياً في تفاعلنا مع العالم المادي.
التحول من الرياح إلى الفحم إلى النفط كان له تأثير كبير ليس على تصور المسافة فقط, لكن على الأهمية النسبية لبعض المواقع والطرق الجغرافية. كما عملنا على تحديد جغرافيا القرن الحادي و العشرين, فمن المفيد أن نلقي نظرةً على الماضي, مع الأدراك بأن التفاعل البشري هو الذي يوفر منظورًا ويحدد أهمية الجغرافيا في أي وقت.
خلال الكتابة نهاية الحرب العالمية الاولى, حدد ماكيندر جغرافيا القرن العشرين الذي بزغ حديثاً باعتبارها واحدة تتمحور حول “قلب” أوراسيا, و الصراع على السلطة بين ذلك القلب القاري والقوى البحرية المعزولة حول محيطها.
إحتج ماكيندر بان الإبتكارات التكنلوجية, خصوصاً السكك الحديدية, ستسمح لقوة قلب الارض بربط الموارد و السكان لما أطلق عليه جزيرة العالَم (أوروبا, آسيا, و افريقيا). مع حماية خطوط الإتصال الداخلية الخاصة بها من القوى البحرية, عندها سيحشد قلب الأرض مواردها لإنتاج القوى البحرية والتغلب عليها. طموحات ألمانيا و قوى المحور في الحرب العالمية الثانية, و الإتحاد السوفييتي في الحرب الباردة, كلاهما يبدوان بأنهما يؤكدان تقييم ماكيندر وبالتالي حددا الخطوط الجيوسياسية للقرن العشرين.
المنظور الجغرافي للقرن المقبل بدأ يتشكل للتوّ. و في القلب ممه هناك تنافس بين الصين و الولايات المتحدة لخلافة مركزية أوروبا في النظام العالمي و التي استمرت ل500 عام. كانت السمة الجغرافية المحددة للقرن التاسع عشر هي تأثير الثورة الصناعية على الأنماط الاجتماعية والاقتصادية والتجارة الدولية, مع طفرة في التحضر, تخصص الإنتاج وتوسيع خطوط الإمداد للمواد الخام والأسواق. لكن العمل الأساسي للكوارث –الزلازل- العالمية للقرن الحادي والعشرين بدأ بالتحرك أيضًا. لعبت المنافسات القارية البحرية بين المملكة المتحدة وروسيا في اللعبة الكبرى ، وملأ الاستكشاف العالمي الكثير من المساحة الفارغة المتبقية على الخرائط ، مما يترك مساحة عازلة صغيرة بين الدول. مع اقتراب القرن من نهايته ، ظهرت بوادر مبكرة على تحدٍ مستقبلي لمركزية أوروبا. تحولت الولايات المتحدة جذريًا من كونها قارية إلى موقع دولي، سلطت الضوء على الحرب الإسبانية الأمريكية عام 1898 ، وقلبت اليابان النظام القاري القديم ، لتحل محل الصين المتضائلة كقوة مركزية في آسيا. يمكننا أن نسير إلى الوراء أكثر ، ونرى الارتفاع الهائل في التجارة عبر الأطلسي في القرن الثامن عشر على أنه تحديد مركز جديد لنظام عالمي ناشئ ، مع استبدال المحيط الأطلسي الشاسع بالبحر الأبيض المتوسط المغلق باعتباره الرابط المركزي. ما سبق كان القرن السابع عشر الذي حددته معاهدات صلح وستفاليا وظهور الدولة الحديثة ذات السيادة على الناس والاقتصاد والأراضي. و قبل ذلك كان القرن السادس عشر الذي شهد ظهورالعالم المترابط بشكل كبير- لم يظهر ذلك كثيراً في الغزو الأوروبي, ، ربما في قوة الغزو الياباني الهائلة التي حاولت اختراق كوريا في نهاية القرن, مسلَّحاً بالقربينة الاوروبية –طراز قديم من البندقية- في محاولة لقلب نظام عالمي صيني.
النفوذ على جغرافيا القرن الحادي و العشرين
ستقع الولايات المتحدة و الصين في جبهة جغرافيا القرن الحادي و العشرين, ، مع بقاء الولايات المتحدة قوة بحرية تقليدية ، حيث تعمل الصين على تجسير دور قاري وبحري. ستحتفظ أوروبا وروسيا بالقوة والنفوذ ، وإن بدرجة أقل، وفي حين أنهم قد يميلون نحو القطبين الأكبر ، إلا أنهم لن يسقطوا في تحالفات مقفلة. قد تتحالف روسيا مع الصين, لكن المبادرات الصينية في القطب الشمالي وآسيا الوسطى والمحيط الهندي والشرق الأوسط كلها تتعدى على مجالات المصالح الروسية التقليدية. بينما قد تتحالف أوروبا و الولايات المتحدة في عدة قضايا, إلا أن أوروبا كذلك متحدة بشكل متزايد في طرق التجارة البرية العابرة للقارات وعلى خلاف مع الولايات المتحدة على الجبهات التنظيمية ، من الضرائب إلى الفضاء الإلكتروني إلى اللوائح البيئية.
ستشمل التقنيات التكوينية للقرن الحادي والعشرين أيضًا تحولًا آخر في الطاقة ، مما يجعل بعض المناطق أقل أهمية ، ويبرز البعض الآخر كمركز لمنافسة الموارد ، بما في ذلك قاع البحر وربما في الفضاء. إن إنتاج الطاقة المحلية ، سواء من خلال الرياح والطاقة الشمسية أو من خلال المفاعلات النووية الدقيقة ، سيفتح الفرص في المناطق المنفصلة ، من القطب الشمالي إلى مرتفعات الهند الصينية. العلوم الزراعية ستغير بشكل أبعد العلاقة بين السكان و الأرض, و تتكيف مع الأنماط المناخية المتغيرة وإتجاهات التحضر. سوف تخفف التقنيات الطبية الحيوية من بعض التحديات الديموغرافية لشيخوخة السكان ، وتقلب النماذج الاقتصادية التقليدية التي تفضل التوسع المستمر في تجمعات العمالة. سيصبح الفضاء ساحة معركة جديدة للطرق المتنافسة لتدفق المعلومات ، وستمتد المنافسة إلى البنية التحتية المادية والمفاهيم الأثيريّة للفضاء السيبراني. سوف يقلل فرط سرعة الصوت من تأثير المسافة ، وسيؤدي التوسع في أنظمة الأسلحة المستقلة إلى تغيير جغرافية الحرب مرة أخرى.
لا يزال هذا المنظور الجغرافي الناشئ للقرن الحادي والعشرين بعيدًا عن التركيز قليلاً. لكن الأكيد هو أنه سيدور حول الصين والولايات المتحدة ، في منافسة على هذا المركز المحوري في النظام العالمي.