أنموذج تشكيل اللجنة التحقيقية العليا في قضايا الفساد الكبرى والجرائم الاستثنائية
الدكتور مصدق عادل
كلية القانون – جامعة بغداد
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
قرر رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي بتاريخ 30 آب 2020 تشكيل لجنة تحقيقية عليا ترتبط بمكتب رئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، وتختص بالتحقيق في قضايا الفساد الكبرى والجرائم الاستثنائية، مع منح هذه اللجنة الصلاحيات المطلوبة لتحقيق هيبة القانون والمجتمع استعادة حقوق الدولة والمواطن من الفاسدين والمعتدين.
وأول ما يلاحظ بهذا الصدد أنَّ تشكيل هذه اللجنة جاء بخطاب متلفز، ولم يصدر من رئيس مجلس الوزراء أي أمر ديواني بذلك كما توجبه السياقات القانونية والإدارية، أو تحديد صلاحياتها ومهامها أو المعايير التي سيتم الاختيار على أساسها.
وعلى الرغم من إيماننا بأهمية التحقيق في قضايا الفساد المالي والإداري باعتبارها الداء الذي بات ينخر كيان الدولة العراقية بجميع مؤسساتها، غير أننا نستغرب إصرار رؤساء مجلس الوزراء العراقيين المتعاقبين على استحداث تشكيلات لمكافحة الفساد المالي خارج الإطار الدستوري والقانوني المحدد في التشريع العراقي، إذ شهدنا في الحكومات السابقة تشكيل “المجلس الأعلى لمكافحة الفساد”، واليوم نشهد في ظل الحكومة الحالية تشكيل “اللجنة التحقيقية العليا لقضايا الفساد الكبرى والجرائم الاستثنائية”.
ويبدو أنَّ هذه التجربة الجديدة تحاول أنْ تحاكي مكتب التحقيقات في مكتب القائد العام للقوات المسلحة الذي تم اللجوء إليه من بعض رؤساء مجلس الوزراء السابقين.
وما يهمنا في هذه الدراسة التركيز على الجوانب القانونية المتعلقة بتشكيل هذه اللجنة، فبالرجوع إلى المادة (78) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 نجد أنها أقرت بأنَّ رئيس مجلس الوزراء هو المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسة العامة للدولة، وله وفقاً لهذه الصفة اتخاذ الإجراءات اللازمة للإشراف على تنفيذ السياسة العامة للدولة وفقاً للدستور والقوانين النافذة، وبالأخص إذا ما علمنا أنَّ المنهاج الوزاري لحكومة السيد الكاظمي المصوت عليه من مجلس النواب 6/5/2020 قد نص في البند (اولاً: الأوليات : 7- مكافحة الفساد والعمل على حماية ثروات البلاد الطبيعية وتطويرها).
وعلى الرغم من عدم انطباق وصف “الرئيس الأعلى” على رئيس مجلس الوزراء وفق المادة (1) من قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم (14) لسنة 1991، غير أننا نرى أنَّ لرئيس مجلس الوزراء سلطة تشكيل اللجان التحقيقية وفق المادة (10/اولاً) من القانون[1] وبدلالة المادة (14/ثانياً) منه[2]، إذ إنَّ من يملك توقيع العقوبة الشديدة على الموظف العام كالتوبيخ صعوداً يملك من باب أولى توقيع العقوبات البسيطة، ومن بينها تشكيل اللجان التحقيقية، تطبيقاً لمبدأ (من يملك الكل يملك الجزء)، ولا يستثنى من ذلك إلا المدير العام صعوداً، فمع الإقرار بإمكانية التحقيق معه من اللجنة العليا، غير أنه يتوجب عرض العقوبات من التوبيخ صعوداً على انظار مجلس الوزراء لغرض الموافقة على العقوبة وفقاً للمادة (12) من قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام[3]، مع امتلاك رئيس مجلس الوزراء سلطة إحالة الموظف – أياً كان عنوانه الوظيفي- الذي ارتكب جريمة نشأت عن وظيفته أو ارتكبها بصفته الرسمية إلى المحاكم المختصة بناءً على توصية من اللجنة التحقيقية أو من تلقاء نفسه.
وبهذا يمكن القول أنَّ رئيس مجلس الوزراء يملك سلطة تشكيل اللجان التحقيقية، وليس اللجان التحقيقية العليا، لعدم وجود سند دستوري أو قانوني لهذه التسمية، مع ملاحظة أنَّ نطاق عمل هذه اللجنة ينحصر بموظفي الدولة والقطاع العام، دون شموله لمنتسبو القوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي وجهاز المخابرات الوطني والقضاة واعضاء الادعاء العام، لأنَّ قوانينهم الخاصة تقضي بتشكيل مجالس تحقيقية، وليس لجان تحقيقية، وهو الأمر الذي يتوجب معه مراعاة ذلك من رئيس مجلس الوزراء واللجنة التحقيق.
وبهذا يتماثل عمل اللجنة التحقيقية العليا مع الإخبار المقدم من أي مواطن أو موظف المتعلق بقضايا الفساد أو أي جريمة لا تتطلب موافقة المشتكي، إذ إنَّ كليهما يقتصر دوره على مجرد إخبار وإعلام السلطات التحقيقية المختصة بالجريمة ووفقاً للمادة (1)[4] من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971 المعدل، وفي ضوء الواجب المفروض على الجميع بحماية المال العام وفقاً للمادة (27) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 التي تنص على (اولاً: للأموال العامة حرمة، وحمايتها واجب على كل مواطن).
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فانَّ تحديد عمل اللجنة العليا بقضايا الفساد والجرائم الكبرى لا يوجد له غطاء دستوري وقانوني، إذ إنَّ تعريف قضية الفساد محدد بموجب المادة (1)[5] من قانون هيئة النزاهة والكسب غير المشروع رقم (30) لسنة 2011 المعدل بالقانون رقم (30) لسنة 2019، ويخضع التحقيق في هذه الجرائم لاختصاص هيئة النزاهة وفق المادة (3) من القانون التي تنص على أنه (تعمل الهيئة على المساهمة في منع الفساد ومكافحته، واعتماد الشفافية في إدارة شؤون الحكم على جميع المستويات عن طريق: أولاً: التحقيق في قضايا الفساد طبقاً لأحكام هذا القانون، بواسطة محققين ، تحت إشراف قاضي التحقيق المختص، ووفقاً لأحكام قانون اصول المحاكمات الجزائية).
ويمكن القول أنَّ تشكيل اللجنة التحقيقية العليا للفساد يتعارض مع الاختصاص النوعي والحصري الممنوح لدائرة التحقيقات في هيئة النزاهة، باعتبارها هيئة مستقلة تخضع لرقابة مجلس النواب وفق المادة (102) من الدستور، كما يتعارض تشكيل هذه اللجنة مع اختصاص محكمة التحقيق المختصة بقضايا النزاهة تطبيقاً لمبدأ استقلال القضاء، ومن ثم لا يعدو عمل هذه اللجنة عن كونه عملاً تمهيدياً تنسيقياً بحتاً، إذ لا يمكن منازعة الجهات المذكورة أعلاه في حالة قيامها بالتحقيق، وذلك لاختصاصها الحصري بالتحقيق في قضايا الفساد بنصوص قانونية صريحة، وليس باجتهادات شخصية.
وبعبارة أخرى فإنَّ الأصل العام في التشريع العراقي يتمثل بعدم اختصاص اللجنة العليا بالتحقيق في قضايا الفساد الكبرى، لعدم تحديد هذا المصطلح في القوانين العراقية النافذة، فضلاً عن معارضته مع مبدأ الشرعية الجنائية المنصوص عليه في المادة (19/ثانياً) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 التي تنص على أنه (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص).
وإذا كان المقصود بجرائم الفساد الكبرى هي الجرائم التي يرتكبها رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء المنصوص عليها في المادة (93/سادساً) فتجدر الإشارة إلى عدم صدور القانون الذي ينظمها، وقد سبق للمحكمة الاتحادية العليا أنْ قررت عدم إمكانية النظر في هذه الجرائم إلا بعد صدور القانون الذي ينظمها.
أما بالنسبة إلى مصطلح “الجرائم الكبرى” فهو الآخر غير محدد في التشريع العراقي، وإذا كانت هذه الجرائم تنصرف إلى جرائم الإرهاب وفقاً لقانون مكافحة الإرهاب رقم (13) لسنة 2005 فإنها تخضع لاختصاص قاضي التحقيق في المحكمة الجنائية المركزية وفقاً لقانون المحكمة الجنائية المركزية رقم (13) لسنة 2005، ومن ثم فلا ينعقد الاختصاص للجنة العليا بالتحقيق في هذه الجرائم.
وينطبق الحكم ذاته بالنسبة إلى جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب التي تخضع لاختصاص محاكم التحقيق ومحكمة الجنايات المختصة في قضايا غسل الأموال التي تشكل ببيان من مجلس القضاء الأعلى في مراكز المناطق الاستئنافية وفقاً للمادة (54) من قانون غسل الأموال وتمويل الإرهاب رقم (39) لسنة 2015.
وفي الختام تجدر الإشارة بهذا الصدد إلى عدم وضع معايير أو مواصفات خاصة بأعضاء اللجنة العليا، ولهذا نرى من جانبنا – في حالة الإصرار على المضي بتشكيل هذه اللجنة – وجوب التقيد بما حددته المادة (10/ثانياً) من قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام، بأنْ يكون أحد الأعضاء قانونياً حاصلاً على شهادة جامعية أولية في القانون، فضلاً عن وجوب تفرغه لعمل اللجنة، ومن غير القضاء أو شاغلي الدرجات الخاصة أو المدراء العامون المستمرين بالخدمة.
وبناء على ما تقدم فإننا نرى أنَّ تشكيل اللجنة العليا وممارسة اختصاصاتها لا يعدو عن كونه عملاً إدارياً إعلامياً، أكثر من كونه عملاً قانونياً تحقيقياً في ظل عدم التحديد الدقيق لاختصاص اللجنة، كما يمكن وصف عمل هذه اللجنة بالعمل التنسيقي فقط، وبالأخص في حالة قيام الجهات التحقيقية المختصة بالشروع في التحقيق، فلا تستطيع اللجنة العليا منافستها في هذه التحقيقات، لعدم وجود السند الدستوري والقانوني الذي يمنحها هذه السلطات، أي: إنَّ الاعمال والمهام التي تقوم بها اللجنة العليا، لا تعدو عن كونها توصيات ومقترحات غير ملزمة للجهات التحقيقية المذكورة أعلاه.
لكل ما تقدم فإننا ندعو رئيس مجلس الوزراء إلى ترسيخ مبدأ سيادة القانون وبناء المؤسسات الدستورية، بدلاً من تشكيل اللجنة العليا للفساد والجرائم الكبرى التي تفتقر إلى الغطاء الدستوري والقانوني.
كما نشدد على ضرورة استكمال رئيس مجلس الوزراء متطلبات تعيين رئيس هيئة النزاهة اصالة وليس وكالة، وبالأخص بعد قيام مجلس النواب بإصدار قانون التعديل الأول لقانون هيئة النزاهة والكسب غير المشروع رقم (30) لسنة 2019.
فضلاً عن وجوب استكمال إجراءات تعيين رئيس ديوان الرقابة المالية أصالة وليس وكالة وفقاً لقانون ديوان الرقابة المالية رقم (31) لسنة 2011 المعدل.
وفي الوقت ذاته فإنَّ رئيس مجلس الوزراء – بصفته المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسة العامة للدولة – ملزم بالتنسيق مع مجلس القضاء الأعلى ورئيس الادعاء العام لغرض تشكيل مكاتب الادعاء العام لمكافحة الفساد المالي والإداري في كل وزارة وهيئة مستقلة، وفقاً لقانون الادعاء العام رقم (49) لسنة 2017، وذلك من أجل تكامل المؤسسات الدستورية والقانونية المعنية بمكافحة الفساد المالي والإداري في العراق، وتنسيق عملها في إطار قانوني منظم.
[1] – تنص المادة (10) من القانون على انه (اولا : على الوزير أو رئيس الدائرة تاليف لجنة تحقيقية من رئيس وعضوين من ذوي الخبرة على ان يكون احدهم حاصلا على شهادة جامعية اولية في القانون).
[2] – تنص المادة (14) من القانون على انه (لرئيس مجلس الوزراء أو الوزير أو رئيس الدائرة الغير مرتبطة بوزارة فرض احدى العقوبات التالية على الموظف التابع لوزارته أو دائرته والمشمول باحكام هذا القانون: أ-انقاص الراتب. ب- تنزيل الدرجة .ج- الفصل.د- العزل) .
[3] – تنص المادة (12) من القانون(ثانياً: اذا ظهر للوزير من خلال التحقيق ان الموظف المشمول باحكام الفقرة (اولا) من هذه المادة قد ارتكب فعلا يستدعي عقوبة اشد مما هو مخول به , فعليه ان يعرض الامر على مجلس الوزراء متضمنا الاقتراح بفرض العقوبات المنصوص عليها في هذا القانون).
[4] – تنص المادة (1) من القانون على انه (أ – تحرك الدعوى الجزائية بشكوى شفوية أو تحريرية تقدم إلى حاكم التحقيق أو المحقق أو أي مسؤول في مركز الشرطة أو أي من اعضاء الضبط القضائي من المتضرر من الجريمة أو من يقوم مقامه قانوناً أو أي شخص علم بوقوعها أو بإخبار يقدم إلى أي منهم من الادعاء العام ما لم ينص القانون على خلاف ذلك. ويجوز تقديم الشكوى في حالة الجرم المشهود إلى من يكون حاضراً من ضباط الشرطة ومفوضيها).
[5] – تنص المادة (1) من القانون على أنه (ثالثاً: أ – قضية فساد: هي دعوى جزائية يجري التحقيق فيها بشان جريمة من جرائم (سرقة اموال الدولة , الرشوة , الاختلاس , الكسب غير المشروع , تجاوز الموظفين حدود وظائفهم وفق المواد (328 و 329 و 330 و 331 و 334 و 335 و 336 و 338 و 340 و 341 ) من قانون العقوبات رقم ( 111 ) لسنة 1969).
ب – تعد قضية فساد الجرائم الآتية:
1- جرائم الفساد وبضمنها خيانة الأمانة التي ترتكب من المنظمات غير الحكومية الممنوحة صفة النفع العام وفي الاتحادات والنقابات والجمعيات المهنية التي تسهم الدولة في أموالهم أو التي منحت أموالهم صفة أموال عامة أو التي منح منسوبوها صفة المكلفين بخدمة عامة .
2- جرائم الرشوة في القطاع الخاص الوطني والأجنبي في الإعمال المتعلقة بالقطاع العام وجرائم رشوة الموظف الأجنبي).