ابحاث ودراساتسلايدر
الولايات المتحدة وحوارها الاستراتيجي مع العراق قراءة في نتائج الجولة الثانية…
الجزء الثاني
الدكتور أنور سعيد الحيدري
يبدو أن “الحوار الستراتيجي” بين الولايات المتحدة والعراق، والذي انطلق في حزيران ٢٠٢٠ في جلسة افتراضية عقدت بين وفدي البلدين، سرعان ما تمخض عن إتفاقات وتفاهمات بينهما صدرت رسميا في ١٩ آب ٢٠٢٠، بعد زيارة الوفد العراقي إلى واشنطن، والذي تزعمه بداية وزير الخارجية العراقي، وليعلن عن مضامين ذلك الحوار ونتائجه رسميا من وزارتي الخارجية في كلا البلدين.
وقد جرى التأكيد على أن اتفاقية الإطار الستراتيجي الموقعة بين البلدين عام ٢٠٠٨م هي الأساس لذلك الحوار ومخرجاته، ولكن لم يبين الجانب الأمريكي أسباب عدم تنشيط هكذا “حوار” خلال مدة ١٢ عاما من توقيع الاتفاقية.
وجرى توقيت هذا الحوار في ظرف حرج للغاية بالنسبة للإدارة الأمريكية المقبلة على انتخابات رئاسية في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر وسط مشكلات القت بظلالها على أدائها، لربما كان أبرزها تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد الأميركي، والوضع غير المستقر في الشرق الأوسط عموما، وكذلك تداعيات وجود القوات الأمريكية في الخارج على الداخل الأمريكي، وهو أمر لا يحظى بترحيب من الرأي العام الأميركي المفترض أن يتوجه إلى صناديق الاقتراع بعد ما يقل عن عشرة أسابيع.
ليس سرا أن زيارة رئيس وزراء العراق إلى البيت الأبيض، ولقاءه الرئيس ترامب، وعقد مؤتمر صحفي بين وزيري خارجية البلدين، يشكل مساحة إعلامية وإعلانية مهمة للرئيس وطاقمه في حملته لإعادة انتخابه لولاية ثانية، سيما وأنه يستعرض منجزات، ويعد بإنجازات، قائمة على أساس القوة الأمريكية بشقيها العسكري والاقتصادي من جانب، والإعلان عن الرغبة في تخفيض وجود القوات الأمريكية في الخارج (أفغانستان، العراق، سوريا) إلى أقصى حد ممكن، والاحتفاء بـ”النصر النهائي” على (داعش) بعد أخطاء قامت بها إدارة الرئيس السابق (أوباما/ الديمقراطي)- وفقا للرئيس ترامب.
ويبدو أن الوفد الرسمي العراقي كان قد انطلق في رؤيته للعلاقة بين البلدين من الإقرار بالاحتلال الأميركي للعراق عام ٢٠٠٣م، بل وعد ذلك إنجازا يسجل للولايات المتحدة بإسقاطها للنظام السابق، وفقا لما صرح به رئيس الوزراء العراقي، في وقت كان فيه الرئيس الأمريكي قد عد ذلك خطأً وقعت فيه إدارة الرئيس جورج بوش الابن.
لذا، لم يدرج الوفد العراقي على طاولة الحوار موضوعات تداعيات وآثار الاحتلال الأميركي للعراق من خسائر وأضرار معنوية ومادية لحقت بالعراق والعراقيين، كما لم تتم الإشارة إلى ضرورة تعويض ضحايا الاحتلال الأمريكي من العراقيين، ناهيك عن الاعتداءات الأميركية المتكررة على قطعات عسكرية ومواقع مدنية قامت بها القوات الأمريكية، بما فيها حادثة المطار في ٣ كانون الثاني ٢٠٢٠، عندما أقدمت إدارة الرئيس ترامب على اغتيال نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقية برفقة قائد فيلق القدس الإيراني الذي كان في مهمة رسمية في العراق في محيط مطار بغداد الدولي (المدني).
أولا- انسحاب القوات الأميركية من العراق:
يبدو أن موضوع انسحاب القوات الأميركية من العراق هو الموضوع الأكثر إثارة جدلا في موضوعة “الحوار الاستراتيجي” بين البلدين. فبعد سلسلة من الاعتداءات الأميركية على أهداف عسكرية ومدنية عراقية توجت بجريمة (المطار)، اتخذ مجلس النواب العراقي في ٥ كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٠ قرارا داعما للحكومة العراقية يقضي بإخراج قوات التحالف الدولي- وفي مقدمتها القوات الأمريكية- من العراق. وبدأت وزارة الخارجية العراقية بإجراءاتها بهذا الصدد عبر مخاطبة مجلس الأمن بإنهاء مهام تلك القوات في العراق، بعد أن كانت وزارة الخارجية العراقية قد طلبت من مجلس الأمن عام ٢٠١٤ إرسال قوات دولية إلى العراق لمواجهة هجوم ميليشيات داعش على بعض المدن العراقية، في وقت لم تف فيه الولايات المتحدة بالتزامها تجاه العراق بدعمه عسكريا وفقا لاتفاقية الإطار الاستراتيجي.
ومن المفارقات أن:
- نتائج الجولة الأولى من “الحوار”، قد اشارت إلى كتابي وزارة الخارجية العراقية إلى مجلس الأمن في العام ٢٠١٤، دون أن تشير إلى كتاب الوزارة الذي يطلب من مجلس الأمن سحب تلك القوات عام ٢٠٢٠.
- في الجولة الثانية، لم يتطرق الجانبان رسميا إلى موضوعة الانسحاب الكامل والى مخاطبات العراق لمجلس الأمن. مثلما غيب مجلس الأمن تماما والأمم المتحدة عموما عن الجولتين، وأخذت الولايات المتحدة تتحدث نيابة عن (التحالف الدولي) وعن (الناتو) في حين أن (اتفاقية الإطار) كانت مع الولايات المتحدة حصرا ولم تضم مع العراق دولة سواها. ويبدو أن الولايات المتحدة اتخذت من وجودها العسكري في العراق عبر (التحالف الدولي) شباكا تسللت منه بعد أن كانت قد غادرته عام ٢٠١١ وفقا لاتفاقية الإطار ذاتها.
- وفي البيان الختامي المشترك، أعلن عن امتنان العراق للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في هزيمة (داعش)، وأن النجاح المشترك للقوات العراقية وقوات التحالف الدولي في هزيمة داعش، قد مهد السبيل إلى مرحلة جديدة لانتقال مهام (التحالف) إلى مواصلة تدريب وتجهيز ودعم القوات العراقية، وأكدت الحكومة العراقية استعدادها لحماية أفراد قوات (التحالف)، الذي أعاد نشر مواقعه في العراق بعد هزيمة (داعش)، ولكن البيان لم يذكر ولم يشر إلى أية دولة من دول التحالف باستثناء الولايات المتحدة، مثلما لم يصدر أي بيان او موقف من مجلس الأمن أو دول التحالف او الناتو يشير إلى أن الولايات المتحدة هي من تمثله في هذا “الحوار”، وأنه طرف فيه.
وهكذا نجد أن موضوعة انسحاب القوات الأميركية من العراق، وإن كانت حاضرة في “الحوار”، إلا أنها لم تأخذ بعدا واضحا محدد المعالم يخرج بنتائج محددة. والخلاصة التي يمكن استنتاجها هي أن القوات الأمريكية باقية في العراق تحت غطاء (التحالف الدولي) ومؤطرة بـ(اتفاقية الإطار)، مع إمكانية إعادة انتشارها، وإن العراق “ممتن” لها لمساعدتها له في هزيمة (داعش)، وأنها ستستمر في دعم العراق في هذا المسار، وكذلك في تدريب القوات العراقية.
ومن المفارقات أيضا أن وزير الخارجية الأمريكي ذكر في المؤتمر الصحفي الذي جمع الرئيس الأميركي ورئيس مجلس الوزراء العراقي أن القوات الأميركية في العراق ستقلص إلى أدنى مستوى لها كما ذكر الرئيس، وكما هو الحال في أفغانستان حيث سيتقلص العدد إلى ٤٠٠٠ جندي أمريكي في غضون عدة أشهر. وقد أيده الرئيس في ذلك سيما ما يخص سوريا حينما ذكر بأن عدد القوات الأمريكية في سوريا هو لا شيء تقريبا، وأنها موجودة “لحماية النفط”. بعد أن كان قد طلب منه التصريح بهذا الشأن بناء على سؤال صحفي عن عدد القوات الأمريكية في العراق وجدولة انسحابها. ولكن قبل يوم واحد، وفي المؤتمر الصحفي مع وزير الخارجية العراقي، وعندما سألته صحفية السؤال ذاته، “لقد ناقشتم في الخوار الاستراتيجي الأول أنه سيكون هناك خفض للقوات الأمريكية في العراق. هل يوجد جدول زمني وأرقام محددة؟ كان رده: “ليس لدينا ما نعلنه بخصوص الأرقام. لكني احث الجميع… على عدم التركيز على ذلك. ينصب التركيز الحقيقي على الجهود المشتركة التي نبذلها في كل قضية من القضايا، سواء كانت الجهود الاقتصادية أو جهود المساعدة الإنسانية، أم المساعدة الأمنية. وكل هذه الأشياء. ما زلنا نفهم أن الشعب العراقي بحاجة لذلك. وتعتمد سيادة الشعب العراقي على استمرار الالتزام الأميركي بدعمه وتقديم تلك المساعدة له. ونحن مصممون على ذلك”.
ولكن أين السيادة العراقية في المنظور الأمريكي؟
ثانيا- السيادة العراقية في المنظور الأمريكي:
معروف أن ما يميز الدولة عن سواها من الكيانات السياسية هو السيادة. وهي مرتبطة بالدولة، وتتولى الحكومة مسؤولية الحفاظ عليها، وهي بمفهومها العام تعني أن لا سلطان يعلو سلطان الدولة. وأن أي انتهاك خارجي لسيادة الدولة يعد أمرا مرفوضا، ولا يحظى بالشرعية الدولية. وهكذا عندما انتهكت (داعش) سيادة العراق أرضا وشعبا، فإنها لم تحظ بالاعتراف الدولي، وظل المجتمع الدولي متمسكا بضرورة استعادة الدولة العراقية لسيادتها على أرضها ومواطنيها.
ولكن يبدو أن مفهوم سيادة العراق وفقا للمنظور الأمريكي تختلف عن منظور السيادة وفقا لأدبيات علم السياسة وقواعد القانون الدولي. وقد تجلى ذلك من خلال “الحوار” في أكثر من موقف منها:
- النص السالف للوزير (پومپيو) الذي ذكر فيه: “وتعتمد سيادة الشعب العراقي على استمرار الالتزام الأميركي بدعمه وتقديم تلك المساعدة له”. ويلاحظ على هذا النص أنه:
- تحدث عن سيادة الشعب العراقي لا عن سيادة الدولة العراقية.
- تحدث نيابة عن الشعب العراقي، وكأن الولايات المتحدة هي التي تمثله، لا حكومته.
- ربط سيادة الشعب العراقي بالدعم والمساعدة الاميركيين.
- وما يعزز ذلك أيضا ما ذكره (پومپيو) في مؤتمره الصحفي مع وزير الخارجية العراقي حين قال: “نحن ملتزمون بمساعدة العراق على تحقيق الازدهار الاقتصادي والتحرر من التدخل الأجنبي في شؤونه الداخلية، وتحسين علاقاته مع جيرانه أيضا. وهذا ما يريده الشعب العراقي أيضا… عراقا مستقرا ومزدهرا ومستقلا، عراقا للعراقيين، والعراقيون الذين احتجوا العام الماضي أوضحوا ذلك بوضوح”. وهنا يلاحظ أيضا أنه:
- نصب بلاده كـ”محررة” للشعب العراقي من التدخل الأجنبي في شؤون العراق الداخلية، مع أنه لم يذكر ماهية وطبيعة وكيفية وجهة هذا “التدخل”.
- كما أنه عد بلاده مستجيبة لاحتجاجات العراقيين في العام الماضي، ولم يذكر أيضا ماهية مطالب العراقيين المحتجين “بوضوح”.
- أغفل تماما مطالب المحتجين العراقيين المطالبين بضرورة مغادرة القوات الأمريكية وقوات التحالف البلاد وفقا لقراري الحكومة والبرلمان في العراق.
- كما ذكر (پومپيو) ما نصه: “وقد شددت في حوارنا السياسي على أهمية سيادة القانون”. وبطبيعة الحال فإن سيادة القانون هو من صميم السلطان الداخلي للدولة، ولا علاقة لدولة أجنبية به.
- كما ورد في خطابه ما نصه: “تلتزم الولايات المتحدة بدعم قوات الأمن العراقية بأشكال متعددة بما فيها من خلال مهمة الناتو والتحالف الدولي لهزيمة داعش، وذلك من أجل الحد من قوة الميليشيات التي أوغلت في إرهاب الشعب العراقي وقوضت السيادة الوطنية في العراق”. وهنا يمكن ملاحظة ما يأتي:
- ان الولايات المتحدة ترى في ما تسميه “الميليشيات” “قوة إرهابية” تستلزم جهودها وجهود الناتو والتحالف الدولي لهزيمة داعش (الإرهابي) من أجل الحد منها.
- وبما أن تلك “الميليشيات” هي قوة داخلية، وهي من “تقوض السيادة الوطنية في العراق”، يتأكد أن الولايات المتحدة ما زالت تنصب نفسها حاميا للسيادة الداخلية في العراق.
- وفي معرض عدم تحديد ماهية تلك “الميليشيات الإرهابية”، وتصنيف الولايات المتحدة لبعض فصائل الحشد الشعبي- الذي أغفل دوره في هزيمة داعش تماما- ممن كانت قد قاومت الاحتلال الأمريكي، على أنها “تنظيمات إرهابية”، فإن ذلك قد يستبطن احتمالية دعم الولايات المتحدة لاقتتال عراقي داخلي بين أبناء المؤسسة العسكرية العراقية، تحت هذا الزعم.
- ومع حضور وزير العراقي المؤتمر جنبا إلى جنب مع وزير الخارجية الأميركي، إلا أنه لم يتحدث عن السيادة العراقية بقدر تحدث الثاني بها، وهو في الوقت ذاته لم يعلق على ما ورد في خطابه بهذا الصدد أيضا.
وإذا ما انتقلنا إلى الرسالة التي بعثها ممثلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي في مجلس الشيوخ الأمريكي: السيناتور جيمس رش/ رئيس لجنة العلاقات الخارجية، والسيناتور روبرت ميندز/ كبير الأعضاء في لجنة العلاقات الخارجية، إلى رئيس مجلس الوزراء العراقي، لوجدنا أنها أيضا تتحدث عن السيادة العراقية من منظور أميركي، وعلى النحو الآتي:
- مع قصر الرسالة، واحتوائها لمضامين متعددة فيما يخص العلاقة بين البلدين ومستقبلها، إلا أن مفردة السيادة وردت فيها أربع مرات، مما يعني استشعار الولايات المتحدة لحساسية هذا الموضوع. وذلك على النحو الآتي:
- “إننا نشارككم الرغبة في رؤية عراق آمن ذو سيادة وخال من التدخلات الأجنبية غير المرغوب بها”. ويقينا أن كل التدخلات الخارجية غير مرغوب بها، ولكن يبدو أن الولايات المتحدة تحاول استثناء تدخلاتها- وهي دولة أجنبية- من وصم “غير المرغوب بها”.
- “إن هذا التعاون مستمر في تعزيز صدارة قوات الأمن العراقية بوصفها الضامن الحقيقي لسيادة العراق بدلا من أية مجموعة مسلحة مستقلة أخرى”. وهنا تكمن مفارقة افتراض وجود مجموعة مسلحة مستقلة تضمن سيادة الدولة العراقية، وفي حال صحة هذا الافتراض فإن من الأولى للحكومة العراقية أن تحتضن هذه “المجموعة” لا أن تواجهها.
- “إننا نعتقد بأن ثمة أمثلة قوية قليلة تدل على سيادة العراق ومن ضمنها إقامة انتخابات حرة وعادلة تبين بوضوح بأن القادة العراقيين سيكونون خاضعين لحكم القانون وإرادة الشعب العراقي”. وهنا نجد تلميحا إلى أن “القادة العراقيين” هم من ينتهكون سيادة بلدهم، وأن الانتخابات القادمة ستخضعهم، كما أنهم الان بحكم الخارجين عن القانون.
- “إننا نعتقد أيضا أن ثمة دعم من الحزبين في الكونغرس لتعميق الشراكة مع العراق لصالح أمن وازدهار الولايات المتحدة والعراق في الوقت نستمر فيه باحترام السيادة الوطنية”. وهنا تركيز آخر على موضوعة احترام السيادة الذي غدا موضع شكوك كثيرة.
- ومع ذلك، يبدو أن الحزبين يدركان أن الرؤية الأمريكية مفروضة على الجانب العراقي الذي لم يتقدم بأي طلب للجانب الأمريكي بهذا الصدد، بقدر ما يبدو أن موقفه هو استجابة للطلبات الأمريكية، لذا ورد في الرسالة ما نصه: “إننا نثمن كثيرا التزامكم بالتعاون الأمني بين الولايات المتحدة والعراق، وندرك بأن هذا التعاون لن يكون إلا بناءاً على طلب وموافقة الحكومة العراقية”.
وهكذا نجد أن الولايات المتحدة أظهرت “حرصها” على السيادة العراقية بوجهها الداخلي الذي هو من اختصاص الحكومة العراقية، واستثنت تدخلاتها في الشأن الداخلي العراقي من موضوعة السيادة، فأين نجد تلك التدخلات؟ وما مدى انتهاكها السيادة العراقية؟
ثالثا- التدخلات الأمريكية وانتهاك السيادة العراقية:
إن التفاصيل التي تحدث بها الرئيس الأميركي ووزير خارجيته الخاصة بالشأن العراقي، تعد في صميم التدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى، بل يمكن القول أن بعضها لا تستطيع الإدارة الأمريكية اقحام نفسها بها في بعض الولايات الأمريكية.
وإذا ما أردنا توزيع محاور تلك التدخلات، فإننا نجد أنها شملت معظم الشؤون الداخلية والخارجية للعراق. ومنها:
- الجانب العسكري والأمني:
وهنا نجد أن الولايات المتحدة قد ركزت على تخفيض عديد قواتها في العراق، وتحويلها إلى قدرات تدريبية داعمة للمؤسسة العسكرية العراقية، ولكن اذا تمعنا في قول الرئيس الأميركي من “أن القوات الأمريكية موجودة في العراق لمواجهة أي تحرك إيراني محتمل”، تظهر أمامنا العديد من الاحتمالات والفرضيات لعل من بينها:
- أن الولايات المتحدة جادة في تحويل العراق إلى ساحة لصراعها مع إيران. وهي التي كانت قد ارتكبت جريمة اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني على الأراضي العراقية في ٣ كانون الثاني ٢٠٢٠، دون احترام للسيادة العراقية، مع ما تحمله تلك الجريمة من تبعات قانونية ومعنوية على العراق.
- يعزز ذلك استخدام الرئيس ترامب لمفردة (مواجهة)، أي أن القوات هجومية وليست دفاعية.
- استخدام الرئيس ترامب لمفردة (تحرك) يعطيه صلاحية واسعة لاستخدام القوات الأمريكية ضد أهداف إيرانية محتملة انطلاقا من الأراضي العراقية، الأمر الذي يجعل من العراق (شريكا في العدوان) وفقا لقواعد القانون الدولي.
- وفي وقت ذكر فيه وزير الخارجية العراقي أن: “إيران دولة مجاورة للعراق. وهناك روابط تتعلق بالجغرافيا والتاريخ والثقافة والاقتصاد… والسياسة الخارجية للعراق تنطلق من المصلحة الوطنية للعراق”، نجد أن الولايات المتحدة تضع مصالحها وسياستها الخارجية فوق مصالح العراق وسياسته الخارجية.
- ومع الاعتداءات التركية المتكررة والمستمرة على الأراضي العراقية، ورفض الجانبين الأميركي والعراقي لها، وتأكيد رئيس الوزراء العراقي على أن الدستور العراقي لا يسمح بأن يكون العراق منطلقا للعدوان على جيرانه، وأن الأزمة مع تركيا ستحل بالطرق السلمية، نجد أن الرئيس الأميركي لم يذكر مثلا ان تلك القوات ستكون مهمتها الدفاع عن الأراضي العراقية في مواجهة اعتداءات خارجية. فالتركيز كان على إيران فقط.
- وفي معرض إجابة الرئيس الأميركي على سؤال حول احتمالية تعرض القوات الأميركية في العراق إلى ضربات، أجاب: “لا أحد يمتلك الأسلحة التي نمتلكها، لدينا أفضل وأعظم جيش في العالم، عندما يضربنا أحدهم نضربه بقوة”. وهنا يمكن ملاحظة ما يأتي:
- أنه أغفل تماما أي دور للحكومة العراقية في هذا الشأن.
- انصب تركيزه على القوة العسكرية الامريكية فقط.
- احتكر تحديد (أحدهم)، وبالتالي أطلق العنان للقوات الامريكية باستهداف ما تشاء من ومن تشاء العراقيين تحت ذريعة الرد على هجمات تعرضت لها القوات الامريكية، وهو ما كانت قد فعلته القوات الامريكية مرات عدة في العراق.
- وفوق ذلك كله، جرى إغفال الجانب العراقي تماما في هذا التصريح.
ذكر وزير الخارجية الأميركي ما نصه: “… أعاقت الجماعات المسلحة التي لا تخضع للسيطرة الكاملة لرئيس الوزراء تقدمنا. ولا بد من استبدال هذه المجموعات بالشرطة المحلية في أسرع وقت ممكن”. وهنا يلاحظ أنه:
- يضع المصلحة الأمريكية كمعيار لتحديد السلوك الداخلي للحكومة العراقية: “أعاقت… تقدمنا”.
- سمح لنفسه بتحديد مقدار سيطرة الحكومة على من اسماها بـ”الجماعات المسلحة”، “لا تخضع للسيطرة الكاملة”.
- وضع شخص رئيس الوزراء كبديل الحكومة، فالعراق يفترض أنه بلد ديمقراطي تحكمه القوانين والمؤسسات لا الأشخاص.
- استخدام مفردة (استبدال) يعني أن من وصفها بـ “الجماعات المسلحة” هي جزء من المؤسسة العسكرية والأمنية العراقية، ولكن يبدو أنها لم تحرز الرضا الأمريكي.
- كما أن استبدالها بـ “الشرطة المحلية في أسرع وقت ممكن”، يظهر وكأن وزير الخارجية الأمريكي يصدر أوامر لرئيس مجلس الوزراء العراقي والقائد العام للقوات المسلحة بتحديد البديل والزمان.
- الجانب الاقتصادي:
لا يخفى أن العراق يعاني من مشكلات جمة في قطاعاته الاقتصادية المختلفة، ولأسباب متعددة لعل أبرزها غياب الفلسفة الاقتصادية للدولة، وتبني أفكار وأيديولوجيات اقتصادية في ظل ضعف في فهمها وغياب لتطويرها بما ينسجم مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي في العراق، ومتغيرات السوق العالمية.
فمن اشتراكية مشوهة طبقها النظام السابق، إلى نظام اقتصادي مشوه المعالم في مرحلة الاحتلال الأمريكي، وما يجمعهما هو شعور المواطن بأن على الحكومة- التي يسميها الدولة- القيام بكل شيء.فكان ذلك مدخلا من مداخل الفساد الواسعة الانتشار في عموم أجراء الدولة العراقية، والتي كان للاحتلال الأميركي دور في إبرازها وتعزيزها منذ العام ٢٠٠٣.
وفي وقت ظلت فيه المطالب الأمريكية تتركز على ضرورة رفع الدعم الحكومي واتجاه الاقتصاد العراقي نحو الخارج، فإن ذلك يواجه عقبات اجتماعية وإدارية وتنظيمية جمة. وفي وقت يتطلب فيه إصلاح الوضع الاقتصادي في العراق إلى استراتيجية اقتصادية- اجتماعية- إدارية متوسطة المدى على أقل تقدير، تحاول الولايات المتحدة دفع العراق إلى رفع الدعم الحكومي، وفتح البلاد أمام الاستثمارات الأجنبية لا المحلية، وتكبيله بقروض صندوق النقد الدولي وشروطه. وهنا يذكر (پومپيو): “نحن نتطلع إلى اليوم الذي لن يحتاج فيه العراق إلى المساعدة والدعم الحكوميين، بل يستبدل ذلك بالدعم الكامل من خلال الاستثمار الأجنبي”.
- الجانب الاجتماعي:
لم يخل الجانب الاجتماعي في العراق المتنوع اجتماعيا ودينيا في ظل إقرار دستوري باحترام الأديان في العراق، ولكن يبدو حتى أن موضوعة الحريات الدينية في العراق أخذت حيزا لدى الجانب الأميركي، وهو ما نجده في قول الوزير (پومپيو): “تطرقنا إلى مسألة الحريات الدينية. وهي أولوية بالنسبة لإدارة ترامپ ومفتاح لازدهار الأمة العراقية”.
- العلاقة بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان:
معروف أن العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان تعترضها بعض المشكلات، سيما في الجوانب المالية، ومعروف أيضا أن الولايات المتحدة تميل لصالح الإقليم على حساب الحكومة الاتحادية، ولربما هذا ما يفسر قول الوزير (پومپيو): “حثثت بغداد على إبرام صفقة ميزانية مع حكومة إقليم كردستان”. في وقت لم تقر فيه الميزانية الاتحادية بعد.
رابعا- البيان الختامي المشترك:
وفي ختام الجولة الثانية، صدر بيان ختامي مشترك عن النتائج التي اسفر عنها “الحوار”، ويمكن أن نلاحظ عليه ما يأتي:
- أنه أغفل تماما الإشارة إلى القوات الامريكية بالإسم، وأشار فقط إلى قوات (التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة).
- ذكر البيان أن الوفدين أقرا “بالتقدم الذي أحرزته المؤسسات الأمنية الفيدرالية العراقية ووزارة شؤون البيشمركة في إقليم كووردستان في تنسيق جهودهما لمحاربة فلول داعش”. ويتضح أن هذا النص يحمل بصمة وزير الخارجية العراقي وخلفيته الحزبية والقومية.
- كما ذكر البيان أن مهمة تلك القوات في مرحلة ما بعد هزيمة داعش هي الانتقال إلى مرحلة جديدة تركز على تدريب وتجهيز ودعم القوات الأمنية العراقية. مع ترتيبات فنية لإعادة انتشار تلك القوات.
- أشار البيان إلى سيادة العراق حين ورد فيه: “جددت الولايات المتحدة تأكيدها على احترام سيادة العراق وسلامة أراضيه والقرارات ذات الصلة للسلطات التشريعية والتنفيذية العراقية”. لكن دون تحديد ما إذا كانت تلك القرارات تخص انسحاب القوات الأجنبية من العراق.
- ولكن ورد في البيان أيضا أن الدولتين كررتا: “دعمهما لحرية التعبير وحرية الإعلام، وضرورة محاسبة مرتكبي أعمال العنف ضد المتظاهرين السلميين”. وهو شأن داخلي عراقي.
- وفي المجال الثقافي، ذكر البيان أن الجانبين استعرضا “التقدم المنجز في إعادة إرشيف حزب البعث إلى العراق، باعتباره قطعة أثرية مهمة من تاريخ العراق”. لكنه لم يشر إلى الأرشيف اليهودي الذي فقد من العراق بعد الاحتلال الأميركي.
- أشار البيان إلى مواصلة التعاون مع دول مجلس التعاون الخليجي فيما يخص مجال الطاقة، والكهربائية منها تحديدا.
- والأهم من ذلك كله هو توقيع الحكومة العراقية اتفاقيات للطاقة لا مع الإدارة الامريكية بل مع شركات أمريكية عبر عنها البيان بالنص الآتي: “وقعت حكومة العراق اتفاقية للطاقة المستدامة مع شركات أمريكية من ضمنها شركة جنرال اليكتريك، هانيويل يو أو بي، وستيلار إنيرجي، بالإضافة إلى مذكرات تفاهم مع شيفرون وبيلر هيوز، كأمثلة ملموسة على شراكة الطاقة بين الولايات المتحدة والعراق”.
وختاماً، يمكن القول أن مخرجات “الحوار الاستراتيجي” تمخضت عن:
- إغفال موضوعة الاحتلال الأمريكي للعراق بالكامل، وكذلك ما تعرضت له البنى التحتية العراقية من دمار، والضحايا العراقيين الذين سقطوا بنيران الاحتلال ابتداء من ١٧ آذار ٢٠٠٣، ولحين اجراء الجولة الثانية من الحوار.
- عدم تحديد جدول زمني لانسحاب القوات الامريكية والأجنبية من العراق.
- تبني المفهوم الأميركي للسيادة العراقية.
- إبقاء المجال مفتوحا أمام أية عمليات عسكرية قد تقوم بها الولايات المتحدة مستقبلا ضد أهداف عراقية.
- بقاء احتمالية تحويل العراق إلى ساحة أمريكية للصراع مع إيران قائمة.
- مع الإشادة بدور القوات التي أسهمت في هزيمة داعش، إلا أنه لم تتم الإشارة إلى قوات الحشد الشعبي التي كان لها سبق الريادة في التصدي للمشروع الداعشي ونا زالت تتصدى لفلوله، في حين لم تدخل الولايات المتحدة المعركة الا متأخرة، ولم يكن لها وحود ميداني مباشر.
- ويبدو أيضا أن بعض فصائل الحشد الشعبي قد تكون محط استهداف أمريكي مباشر، سيما بعد إغفال الجانبين لجريمة اغتيال نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي من القوات الامريكية، وتبني الرئيس الأمريكي لتلك الجريمة رسميا.
- تركيز الجانب الأمريكي على شخصية رئيس مجلس الوزراء العراقي الذي أشار اليه الرئيس الأمريكي بعبارة (هذا الرجل)، ومحاولة تقويته، ومع الترحيب والدعم الأمريكي بالانتخابات العراقية المبكرة، فهذا يعني ان الولايات المتحدة ستدعم (هذا الرجل) في تلك الانتخابات.
- والأهم من ذلك كله، ربط عجلة الاقتصاد العراقي بالشركات الامريكية والاقتصاد الأمريكي عموما. وقد ذكر الرئيس الأمريكي مفتخرا أن العراقيين “يستخدمون الدولار، أقوى عملة”، وسـ “نقدم على صفقات نفطية كبيرة”.
الأمن والاقتصاد كانا محور “الحوار”، أما شعاره فكان “الاستقرار والازدهار”، وقد أضفت الحكومة العراقية الشرعية على المشروع الأمريكي في العراق، فهل سيتحقق الشعار؟