د. انور الحيدري
أخذت تركيا في عهدها الـ (أردوغان) ـي الجديد بأداء دور إقليمي جديد مغاير لدورها الذي أدته منذ مرحلة تأسيسها المعاصرة على يد (أتاتورك)، ذلك الدور الذي تمثل في الاتجاه نحو الغرب كتابع، وكحائط صد ضد تمدد النفوذ السوفيتي في الشرق الأوسط. فدورها الجديد الذي رسمه حزب العدالة والتنمية برموزه ومنظريه يتمثل في التوجه نحو الشرق كقائد، وكشريك للنفوذ الغربي في المنطقة.
ويمكن القول أن السلوك السياسي الخارجي لتركيا مر بثلاثة مراحل:
أولاً: مرحلة المد الاخواني: حيث دعمت تركيا التنظيمات الإخوانية في البلدان العربية بعد ما عرفت إعلاميا بـ” ثورات الربيع العربي”، فالحركات الإسلامية كانت أكثر تنظيما، والأكثر معارضة للأنظمة السابقة، والأكثر اعتدالا مقارنة بالنسخة الوهابية السلفية، فصور الانموذج التركي على انه نسخة حديثة ومتطورة من الإسلام العصري القادر على قيادة الدولة في مجالات التقدم والتطور.
يبدو أن هذا المشروع سرعان ما اصطدم بالرؤية الإسرائيلية التي استشعرت مخاوفا من أن إسلاما أخوانيا موجودا في المغرب وموريتانيا وتونس وليبيا ومصر والسودان وفلسطين وسوريا والعراق إذا ما قدر له مسك زمام الحكم برعاية تركية، فإن ذلك لا يعني هزيمة مشروع القومية العربية، بل عودة المشروع العثماني إلى الواجهة من جديد، فضلا عن إمكانية إنشاء تحالف إسلامي تركي- إيراني مستقبلا قد يؤدي في المحصلة إلى إضعاف الدور الإقليمي الإسرائيلي، وإرجاعه قرنا إلى الوراء. لذا سعى الكيان الإسرائيلي إلى الإطاحة بهذا المشروع عبر تنفيذ انقلاب عسكري في مصر يتم فيه القضاء على الإخوان في معقلهم (مصر) فيتلاشى نفوذهم في البلدان العربية الأخرى. وهو ما جرى بعد ذلك، وبدعم غربي، وإسناد إقليمي (وهابي) مثلته السعودية والإمارات.
ومن المفارقات أن الكيان الإسرائيلي كان قد رشح تركيا لزعامة الشرق الأوسط الجديد في أطروحته التي قدمها في تسعينات القرن الماضي، وقبل وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة في تركيا.
ثانياً: مرحلة دعم داعش:بعد احباط المشروع الاخواني، اتجهت تركيا إلى دعم المشروع الداعشي في الشرق الأوسط، وكمنفذ مباشر لهذا المشروع الغربي باحتساب ان تركيا هي البلد الوحيد الذي يمتلك حدوداً مشتركة مع كل من سوريا والعراق. وهي بعد ان أعلنت عداءها للنظام في سوريا، ودعمت الإخوان فيها، سارعت إلى توفير الدعم اللوجستي للتنظيمات السلفية في سوريا، فكانت ولادة (داعش/ الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام)، ولو كانت (داعش) هي (الدولة الكردية في العراق وبلاد الشام) لأبادتها تركيا ولم تسمح بظهورها يوما واحداً.
ويمكن القول أن أبرز أهداف تركيا في تلك المرحلة تمثلت في:
1- توسيع الرقعة الجغرافية للدولة التركية بعد تفكيك الدولتين العراقية والسورية.
2- ضمان سيطرتها على مشروع أنابيب الغاز المار إلى أوربا.
3- تعظيم نفوذها ودورها الإقليمي في الشرق الأوسط، وبما يعزز مكانتها العالمية.
ثالثاً: مرحلة التدخل العسكري المباشر: بعد فشل المرحلتين السابقتين، لجأت تركيا إلى التدخل العسكري المباشر في عدد من البلدان العربية هي: العراق وسوريا وقطر والصومال وليبيا، مع نفوذ في لبنان. فضلا عن وجودها العسكري المباشر في الجانب التركي من قبرص منذ العام ١٩٧٤م. ولكل منها أسبابها المختلفة، ولكن الرئيس التركي وصف أماكن وجود قوات بلاده العسكرية بـ (الحدود المعنوية) لتركيا.
أولاً: قطر: فقطر، لها موقعها الجغرافي في قلب الخليج، ومواردها الاقتصادية الكامنة التي لا تجعل موضوع دعمها موضوعاً مكلفاً اقتصادياً، فهي منجم عالمي مهم للغاز، فضلاً عن كونها داعماً للإخوان في مواجهة المشروع الوهابي.
ثانياً: الصومال: أما الصومال فهي دولة هشة إن لم تكن فاشلة، لكنها تتمتع بموقع استراتيجي مهم في إطلالتها على مضيق باب المندب، وأن وجود قاعدة عسكرية تركية فيها يضمن تدريب عناصر موالية لتركيا وزجها في أي من دول الإقليم اذا ما استدعت الضرورة ذلك، فضلا عن ضمان آلية التحرك العسكري في ساحل عدن وباب المندب والبحر الأحمر اذا ما اقتضت الضرورة ذلك أيضاً.
ثالثاً: ليبيا: وفيما يخص ليبيا فإنها:
- تتمتع بموقع استراتيجي مهم عبر إطلالتها المتوسطية الواسعة.
- تضم احتياطات نفطية يمكن استثمارها اقتصاديا مستقبلا.
- وجود نفوذ إخواني فيها.
- دولة فاشلة يتنازع فيها الجميع لتقاسم النفوذ، ولا ترضى تركيا بأن تخرج خالية الوفاض من الغنيمة في ليبيا، سيما وأن لمنافستها السعودية نفوذ بارز ومؤثر فيها.
- والعنصر الأهم من ذلك كله هو ما تشير اليه الدراسات المستقبلية عن وجود كميات ضخمة من طاقة المستقبل النظيفة (الغاز) في عمق المتوسط. وإن الدول المتوسطية ستسعى إلى استثمار تلك الطاقة وفقا لإمكاناتها وما يخضع منها لمياهها الإقليمية وجرفها القاري. أما تركيا التي كانت قد فقدت معظم أراضيها وجزرها في الحرب العالمية الأولى، فقد خسرت جزء مهما من إطلالتها المتوسطية وجرفها القاري، وما تبقى لها اليوم لا يضم أيا من حقول الغاز المحتملة، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن كلا من مصر وقبرص واليونان قد اجرت تفاهمات فيما بينها حول إمكانية استثمار الغاز مستقبلا، فعند ذاك ستجد تركيا نفسها محاصرة اقتصاديا من خصومها الإقليميين، وبلا موارد اقتصادية تذكر. لذا فإن رسم خطوط المياه الإقليمية والجرف القاري لكل من ليبيا وتركيا معا، قد يسهم في عزل قبرص والتضييق على مصر واليونان، مما يعطي تركيا أوراقا تفاوضية ضاغطة مستقبلا.
رابعاً: سوريا: وهي الجارة الجنوبية المحاددة لتركيا، والتي ترى فيها تركيا جرءً من إرثها العثماني المقتطع في لحظة انهيار تاريخية، وقد استغلت ظروف وتداعيات الحرب العالمية الثانية لتقتطع لواء الاسكندرونة بموقعه المميز وإطلالته المتوسطية لتضمه إلى إراضيها. وها هي تستغل ارهاصات التحولات السياسية في المنطقة أملا في قضم المزيد من الأراضي السورية وضمها إلى الدولة التركية. وما تركز عليه تركيا تحديدا هو الشريط الشمالي من سوريا المحادد لها، والذي تزعم أنها تريد تحويله إلى ملاذ آمن للاجئين السوريين. ولكنه في حقيقته يحمل أكثر من بعد مهم بالنسبة لها، فهو طريق مفترض لأنابيب الغاز المحتملة، فضلا عن أن السيطرة عليه تعني إضعاف احتمالية قيام دولة كردية يكون لها إطلالة بحرية على المتوسط.
خامساً: العراق:ويحظى العراق بأهمية تاريخية ومعنوية وسياسية كبرى للجانب التركي، فـ(ولاية الموصل) ما زالت هي الجرح الغائر في أعماق الأمة التركية. وإن إعادتها إلى تركيا ما زالت حلماً يراود الدولة التركية، وهذا يتطلب أولاً زوال الشخصية المعنوية للدولة العراقية المعاصرة. كما أنه يحول دون قيام دولة كردية مستقبلاً، وهو ما تعده تركيا تهديدا خطيرا لأمنها القومي. ولأجل ذلك فقد اتخذت تركيا سياسات عدة من بينها:
1- التواجد العسكري المباشر على الأراضي العراقية في الشمال، وفي أكثر من موقع.
2- الهيمنة على المنطقة اقتصاديا عبر التجارة والاستثمار والمنافذ الحدودية.
3- الارتباط مع سكان المنطقة، سيما التركمان والسنة العرب الذين تدعم تركيا وجوههم الإخوانية.
4- التنسيق مع إيران في أي إجراء اضطراري عاجل قد تتخذه الحكومة التركية في الأراضي العراقية، فإيران هي محاددة للإقليم أيضا، ولديها خشية من النزعات الانفصالية للجماعات الكردية فيها.
5- أما مفاصل إدارة الإقليم داخليا فهي على ما يبدو تتم بالتنسيق مع الأسرة البارزانية الحاكمة في محافظتي أربيل ودهوك، وذات النفوذ على المحافظات الأخرى، فضلا عن الدولة العراقية ككل.
ترتكز تركيا في مزاعمها وسلوكها حول (ولاية الموصل) على حجج معاصرة وتاريخية. فالمعاصرة هي وجود حرب العمال الكردستاني الذي تعده تنظيما إرهابيا، وتحت ذريعة محاربته أرسلت قواتها العسكرية إلى شمال العراق، متهمة الحكومات العراقية المتعاقبة بالعجز عن طرد التنظيم من أراضيها وضبط الأمن على حدودها.
أما التاريخية فهي سلسلة المعاهدات التي أبرمت بين تركيا وبريطانيا والعراق بعد تأسيس الدولة العراقية المعاصرة عام ١٩٢١م، سيما اتفاقية لوزان عام ١٩٢٣. ومع الإقرار الدولي بعائدية ولاية الموصل إلى العراق، وإقرار عصبة الأمم بذلك، وانضمام العراق إلى العصبة عام ١٩٣٢، واشتراكه بتأسيس الأمم المتحدة عام ١٩٤٥، بحدوده الحالية، إلا أن تركيا تحاول البحث عن ثغرة قانونية وذرائع واقعية وحجج تاريخية لفصل المحافظات الشمالية الخمس عن جسد الدولة العراقية.
وبعد الاعتداءات التركية في حزيران ٢٠٢٠، حاول بعض من المدافعين عن الحكومة العراقية تسويغ تلك الاعتداءات وعدم رد الحكومة العراقية عليها بما يتناسب ودورها في حفظ أمن وسيادة الدولة، تبرير ذلك بالقول أن تركيا ليست لديها أطماع في الأراضي العراقية، وأن ولاية الموصل جزء من الدولة العراقية بإقرار عصبة الأمم، وأن تصرف تركيا قانوني كون (لوزان) عدت (ولاية الموصل) مجالا حيويا لها. وبطبيعة الحال فإن مثل هذا القول مردود باحتساب ان المجال الحيوي للدولة يأتي ضمن السياقات الاستراتيجية، ولا يعني استباحة أراضي دولة أخرى والاعتداء عليها خلافا لأحكام القوانين والمواثيق الدولية، بل التنسيق معها اذا ما استشعرت أن هناك تهديدا لأمنها القومي.
عموما، يمكن القول أن الأسباب الداخلية التي حالت وتحول دون اتخاذ الحكومات العراقية المتعاقبة الإجراءات المطلوبة في مواجهة تركيا تعود إلى ضعف هذه الحكومات عموما، وإلى أن إقليم كردستان العراق يراها أراضي كردية وليست عراقية، ومن ثم فهو المسؤول في التعامل مع الجانب التركي، وفي كل الأحوال فإن حكومة الإقليم تفضل تواجد أية قوات غير عراقية على أراضيها مقابل عدم تواجد جندي عراقي واحد. بل وصل الأمر ببعض المتطرفين الكرد إلى اتهام الحشد الشعبي الذي اعرب عن استعداه للدفاع عن الأراضي العراقية، بأنه طائفي يستهدف الأتراك كونهم (سنة)، وهو خطاب طائفي محض يتجاوز الوطنية والقومية.
أما الإجراءات التي كان يفترض على الحكومات العراقية المتعاقبة اتخاذها، فيفترض أنها كانت ترتكز على:
1- إقرار العراق دستورياً وسياسياً بعدم السماح لوجود أي تنظيم مسلح يعمل ضد أية دولة على أراضيه.
2- الإقرار بحق تركيا في أن لا تكون الأراضي العراقية منطلقاً لشن اعتداءات على أراضيها.
3- الإقرار بالتفوق العسكري التركي والابتعاد عن الحلول العسكرية.
4- اللجوء إلى القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة لحل هذه الإشكالية.
5- تشكيل فريق دبلوماسي مشترك بين الجانبين يتمخض عنه التوصل إلى تشكيل لجنة عسكرية وأمنية مشتركة تتولى مهمة مراقبة الحدود بين البلدين.
6- في حال تعرض تركيا إلى أي اعتداء مباشر من الأراضي العراقية، فإن ردها يفترض أن يكون بعلم الحكومة العراقية ومشتركاً مع القوات العراقية.
7- ربط هذه المشكلة بالمشكلات الأخرى بين البلدين، وفي مقدمتها مشكلة المياه، لتحقيق مكاسب أعلى للدولة العراقية.
تركيا والتفاعلات الدولية:
تحاول تركيا استثمار المتغيرات الدولية الحاصلة لتعظيم نفوذها في الشرق الأوسط، في ظل تراجع أمريكي ملحوظ في المنطقة لصالح إيران ميدانياً وروسياً سياسياً،والصين اقتصادياً واستراتيجياً.
فهي من جانب لم تخرج من الخيمة الغربية، ولكنها تستثمر المتغيرات فيها. فما تقوم به تركيا يجري بغطاء أميركي، فالولايات المتحدة لا تريد أن تخسر تركيا التي قد تصطف اكثر إلى جانب إيران، وهي كذلك تشجع مزاحمة النفوذ التركي للنفوذ الروسي والفرنسي في ليبيا.
أوربياً، تسعى الولايات المتحدة إلى إضعاف الاتحاد الأوربي وقطبيه الرئيسين: فرنسا وألمانيا، وتركيا تحاول الاستفادة من ذلك سيما بعد ان رفض الاتحاد الأوربي انضمامها اليه.
أما إيران، فهي تعرف قواعد اللعبة مع تركيا، فكلاهما يعرف الحجم الإقليمي للآخر، والانموذج الاخواني بالنسبة لإيران خير من الانموذج السلفي.
أما الكيان الإسرائيلي، فله رؤيته للدور الإقليمي التركي بما لا يهدد أمنه القومي، ويكفي أن تركيا تكن العداء للنظام في سوريا، وستشغل مصر في صراع في ليبيا، وأن دعمها للإخوان لم يصل إلى حماس.
والخلاصة: هي أن تركيا تؤمن بأن النظام العالمي على مفترق طرق قد يشهد تغييراً في موازين القوى فيه، وأن حدود القرن الماضي قد تغيرها صراعات هذا القرن، وأنها لن تنكفئ على الذات كما حصل قبل قرن، بل ستنطلق إلى رسم خارطة جديدة لها تضمن لها نفوذاً أكبر ومجالاً حيوياً أوسع يليق بالأمة والدولة التركية في القرن الحادي والعشرين، ويعيد لها بريقها ومجدها الذي خسرته في القرن العشرين.