الولايات المتحدة وحوارها الاستراتيجي مع العراق
بدأت الولايات المتحدة الأمريكية ما أسمته (حواراً استراتيجيا) بينها وبين الحكومة العراقية التي تشكلت في آيار ٢٠٢٠، والتي حظي رئيسها بدعم أميركي واضح وكبير.
وبعيدا عن كافة المسوغات التي طرحتها الولايات المتحدة حول ذلك (الحوار) وأهدافه، من رغبة في دعم العراق عسكريا وأمنياً واقتصاديا وسياسيا واجتماعياً وثقافيا وفقا لاتفاقية الإطار الموقعة بين البلدين عام ٢٠٠٨، لكن يبدو أن هناك أهدافا أخرى ما زالت غير معلنة على نحو واضح، فضلا عن ملاحظات عدة يمكن تسجيلها بهذا الصدد.
أولاً- الولايات المتحدة: من (الإطار) إلى (الحوار):
ليس سراً أن الولايات المتحدة منذ توقيعها لاتفاقية الإطار الاستراتيجي مع العراق لم تلتزم بشكل كامل بروح ذلك الاتفاق، ومن ثم فأنه لم يجد نفعا للجانب العراقي، حيث أنها لم تعامل مع العراق كدولة بل تعاملت مع القابضين على السلطة فيه، ووفقا لمصالحها بعيدا عن المصلحة العراقية. وتجلى ذلك في أكثر من مشهد لعل أهمها:
- عدم تزويد العراق بالأسلحة اللازمة التي تمكنه من التصدي لميليشيات (داعش) قبل اجتياحها الأراضي العراقية.
- عدم التعاطي مع (داعش) والميليشيات الإرهابية المرتبطة به عند إسقاط الموصل في حزيران ٢٠١٤، بل كانت تتعامل مع تلك الميليشيات على أنهم “ثوار عشائر” يقاتلون ضد السلوك الطائفي للحكومة الاتحادية، وفي أقصى الحالات كانت تستخدم بحقهم مفردة (متمردين) وليسوا (إرهابيين).
- ومع كون (داعش) والميليشيات الإرهابية المرتبطة معه، كانت تهدد وحدة وسلامة أراضي الدولة العراقية ونظامها الديمقراطي، وهو ما تعهد (الإطار) بحمايته وضمانه، إلا أن الولايات المتحدة لم تحرك ساكنا في ذاك أيضا.
- وبعد تصدي العراق للإرهاب الداعشي، وتشكيل الحشد الشعبي، أعلنت الولايات المتحدة أن نظرتها لـ(الحشد) هي أنه نسخة شيعية من داعش.
- ومع اضطرارها للاعتراف بالحشد الشعبي كأمر واقع، إلا أنها لم تتورع عن استهداف قطعات الحشد وقياداته، وليس آخرها اغتيال نائب رئيس هيئة الحسد الشعبي في مطار بغداد الدولي (المدني)، وتبنيها لذلك العمل الإرهابي صراحة، مع كونه عراقيا ويحمل صفة رسمية، فضلا لاستهدافها عددا من المواقع العسكرية والمدنية العراقية، لعل من بينها مطار كربلاء الدولي قيد الإنشاء.
- اقتصاديا: من المعروف أن الولايات المتحدة لم تقم بمبادرة اقتصادية داعمة للعراق خلال تلك المدة، بل استمرت في ما أقدمت عليه منذ احتلالها للعراق عام ٢٠٠٣م في إيقاف عجلة الصناعة العراقية ما عدا النفطية. وكذلك عرقلتها لعدد من المحاولات العراقية للاقتراض الخارجي.
- تهديداتها المتكررة بفرض عقوبات اقتصادية على العراق في حال عدم خضوعه للإملاءات الأمريكية، سيما فيما يخص العقوبات الأميركية الأحادية الجانب على إيران.
- ثقافيا: لم تقم الولايات المتحدة بأي جهود ثقافية مشتركة تعود بالنفع على الجانب العراقي، فالمسروقات العراقية من وثائق وآثار ما زالت في الولايات المتحدة، ومنها ما نقل إلى الكيان الإسرائيلي. أما البعثات الثقافية الطلابية فكان أغلبها على نفقة الحكومة العراقية. فضلا عن عدم وجود مشتركات ثقافية بين البلدين، سوى تبني العراق لمسار التحول الديمقراطي، وهو مسار مشترك بين الدول الديمقراطية جميعا، والأنموذج العراقي لا يحاكي الأنموذج الأميركي في هذا الجانب.
ثانيا- توقيت (الحوار) ودلالاته:
طلبت الولايات المتحدة الحوار مع العراق رسميا في نيسان ٢٠٢٠، وذلك بعد سلسلة من الاعتداءات التي قامت بها على عراقيين داخل الأراضي العراقية، توجت باغتيال نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي (أبو مهدي المهندس) برفقة قائد فيلق القدس الإيراني (الجنرال قاسم سليماني) في ٣ كانون الثاني ٢٠٢٠، وبإشراف الرئيس الأميركي ترامب شخصيا. ليتلوها قرار مجلس النواب العراقي في ٥ كانون الثاني القاضي بإخراج القوات الأجنبية من البلاد، والذي عدته الحكومة العراقية المستقيلة دعما تشريعيا لها في مسعاها الذي بدأته بمخاطبة الأمم المتحدة بهذا الصدد.
وحينها رفضت الولايات المتحدة ذلك الإجراء بزعم أن ذلك ليس من صلاحية حكومة مستقيلة. لكنها عاودت مخاطبة تلك الحكومة (المستقيلة) بإجراء حوار بين البلدين في حزيران ٢٠٢٠، وجاء الطلب في نيسان من العام ذاته بعد أن طلبت الحكومة العراقية أن يكون ذلك الطلب رسميا.
أما (حزيران) فله أكثر من رمزية عراقية منها:
- حزيران ١٩٢٠ ذكرى اندلاع ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني للعراق وتأسيس الدولة العراقية المعاصرة الأولى.
- حزيران ٢٠٠٤ نقل السيادة إلى العراقيين بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣
- حزيران ٢٠١٦ احتلال (داعش) للموصل وعدد من الأراضي العراقية الأخرى، وصدور فتوى الجهاد الكفائي التي تأسس على إثرها الحشد الشعبي، والتي أدت في المحصلة إلى إنهاء المشروع الداعشي في العراق.
ومن هنا لم يكن اختيار الولايات المتحدة لموعد (الحوار) اختيارا خال من الدلالات.
ثالثا- الولايات المتحدة واختيار المفردات:
ليس سرا أن أي وفد مفاوض لا بد أن ينتقي مفرداته بدقة وفقا لدلالاتها ومعانيها القانونية، نظرا لما يترتب على ذلك من التزامات على الدولة في حال قبولها لبنود اتفاق ما ودخوله حيز التنفيذ بعد اتخاذ الإجراءات اللازمة. ومن هنا لا يستبعد ما أشيع إعلاميا من أن الوفد الأمريكي استعد للحوار وهو يحمل مفرداته على نحو كامل الوضوح.
وبطبيعة الحال، فإن لغة القانون تختلف عن لغة السياسة التي تختلف عن لغة الإعلام أيضا. وهنا تبرز مفردات طغت على سطح الإعلام منها (الحوار)، (المفاوضات)، (الاستراتيجي).
وبطبيعة الحال فإن (الحوار) ليس (المفاوضات). فالأول يكون عاما، في حين أن الثاني يكون محددا مسبوقا بمحادثات ومناقشات. وهكذا لا يمكن توقع أن كل هذا الجهد الأمريكي سلط لأجل حوار فقط، قد يكون عاما، وقد لا يفضي إلى نتائج وفق الدلالات القانونية. ولكن يقينا أنها جاءت إلى (مفاوضات) مع ما تعنيه هذه المفردة من دلالات لفظية وقانونية وسياسية وفنية ودبلوماسية وإجراءية.
ولكن يبدو أن استخدام مفردة (الحوار) له أكثر من دلالة إعلامية محتملة لعل من بينها:
- لا إلزامية الحوار. فإذا كان الوفد الأمريكي قد طرح مطلبا لم يقبل عراقيا- رسميا أو شعبيا- عند ذاك يمكنه الالتفاف على ذلك المطلب بأنه كان حوارا فقط.
- شمولية الحوار. فالوفد الأميركي إذا ما جاء بجدول أعمال محدد على طاولة المفاوضات، فإنه سيكون ملزما بالتفاوض حوله حصرا. في حين أنه قد يحصل على مكاسب أكبر، ولربما يتمتع بقدرات على المناورة أكثر، فإن مفردة (الحوار) الفضفاضة ستمنحه غطاء أوسع.
- مرونة الحوار. معروف أن أميركا- وأمريكا ترامب تحديدا- تتبع لغة الأوامر، ودبلوماسيتها تقوم على القبضة القوية، وإن اتباعها لذلك مع العراق قد يولد ردود فعل سلبية ضدها، لذا فهي تظهر وكأنها جاءت لتتحاور مع العراق لا لتملي عليه.
أما مفردة (الاستراتيجي) فهي أبعد ما تكون علميا عن موضوعة (الحوار). نعم، قد يحظى الجيوبولتك العراقي بأهمية استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، شأنه شأن الخليج، ولكن الولايات المتحدة لا تربطها بالعراق ولا بأي من دول المنطقة روابط استراتيجية، فتحالفها الاستراتيجي الوحيد في المنطقة هو مع الكيان الإسرائيلي بعد العام ١٩٦٧.
وهكذا تظهر عبارة (الحوار الاستراتيجي) بدلالات إعلامية تضخيمية أكثر من دلالاتها السياسية، شأنها شأن عبارة (صفقة القرن) وغيرها.
رابعا- الأهداف الأمريكية من (الحوار):
بغض النظر عن الأهداف الأميركية المعلنة من الحوار، فإنه الهدف منه هو مصلحة الولايات المتحدة أكثر من مصالح العراق. ففيما يخص العراق، فإنه عسكريا وأمنياً، وثقافيا، وتعليميا، واقتصاديا، قادر على أن يتوجه إلى أي من دول العالم في تلك المجالات. وحتى في حال خلاف ذلك، فإن بقاءه في ظل الفوضى والفساد لن يضر الولايات المتحدة شيئا وهي في عالم ما وراء البحار بآلاف الاميال، وحتى ثروته النفطية لا تستحق تلك التضحية مقارنة بقدرات الولايات المتحدة ومدى سطوتها وهيمنتها العالمية.
ولكن نظرة أخرى للموضوع من زاوية مغايرة، يتم إدخال الرقم الإسرائيلي على المعادلة فيها، سيوصلنا إلى نتائج مغايرة خلاصتها هو أن (الحوار الاستراتيجي الأميركي- العراقي) لابد أن يصب في المحصلة لصالح (التحالف الاستراتيجي الأميركي- الإسرائيلي).
فبغض النظر عن المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، فإن الولايات المتحدة عازمة على مغادرة المنطقة بحلول العام ٢٠٣٠ تقريبا، بعد أن يفقد النفط أهميته الاستراتيجية مثلما فقدت المنطقة أهميتها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.
لكن المتتبع للأدبيات السياسية الإسرائيلية سيجد أن الكيان الإسرائيلي قد ارتفعت مخاوف الهاجس الأمني لديه إلى مستوى كبير، لأسباب من بينها فشل مسارات التطبيع على المستوى الشعبي، وتزايد نفوذ القوى الرافضة لهيمنته على المنطقة، فضلا عن الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي يعيشها.
ويكاد يجمع أغلب المتخصصين الإسرائيليين على أن عهد ترامب هو العهد الذهبي لتل أبيب، ولا بد من استغلاله بالكامل عبر ضمان الأمن القومي الإسرائيلي على المستوى البعيد.
وبما أن الكيان الإسرائيلي يرى في إيران عدوه الأول، لذا فهو يسعى، ويدفع بالولايات المتحدة نحو القضاء على إيران وأية قوة تشاركها الرؤية والأهداف في المنطقة.
وبما أن العراق هو البلد العربي الوحيد المجاور لإيران، لذا فإن على الولايات المتحدة ان توظف العراق- دولة وشعبا- في مواجهة إيران مثلما جرى خلال المدة ١٩٨٠-١٩٨٨.
وهكذا سيكون العراق ميدانا لممارسة لعبة (الضغط الأقصى) الأمريكية ضد إيران. وعلى نحو يؤدي في المحصلة إلى القضاء على البلدين عسكريا واقتصاديا واجتماعياً.
ومن هنا فإن نتائج هذا (الحوار) لابد أن تسفر في المحصلة عن بقاء القوات العسكرية الأمريكية في العراق، وبدواعي شتى من بينها: مواجهة داعش والإرهاب، وبناء القدرات العسكرية والأمنية فيه. ومسك مسار عجلة الاقتصاد في العراق، وإضعاف دور الحشد الشعبي تمهيدا لإنهاءه بوسائل مختلفة، فضلا عن إنهاء دور القوى السياسية التي ترفض التطبيع مع الكيان الإسرائيلي بتهمة الفساد والولاء لإيران.
وفي مرحلة لاحقة، يتم التمهيد لتوطين الفلسطينيين في العراق- صحراء الأنبار- كجزء ترتيبات (صفقة القرن).
وبما أن الفكر الإسرائيلي يأخذ الاحتمالات جميعا، فإنه أخذ بالحسبان احتمالية فشل (الحوار)، عندئذ يكون البديل هو تقديم المزيد من الدعم السعودية لأجل مواجهة إيران و”وكلائها” في العراق والمنطقة.
خامسا- القوة الأمريكية في الداخل العراقي:
عناصر القوة الخارجية الأمريكية معروفة على نطاق واسع، فمعروف أن الولايات المتحدة هي القوة المادية الأعظم في العالم، ولكنها تمتلك عناصر قوة في الداخل العراقي لعل أبرزها:
- العسكرية: والمتمثلة بقواتها العسكرية المنتشرة في الأراضي العراقية.
- الأمنية والاستخبارية: وهي مرتبطة مع وجودها العسكري من جانب، وفي سفارتها في بغداد التي هي الأكبر في العالم.
- السياسية: والمتمثلة بوجود شخصيات وكيانات سياسية داعمة للسياسة الأمريكية في العراق ابتداء من شخص رئيس الجمهورية وليس انتهاء بشخص رئيس مجلس الوزراء. فضلا عن شخصيات وكيانات سياسية عدة.
فعلى سبيل المثال: عندما أقدمت الولايات المتحدة على قتل عراقيين نهاية كانون الأول عام ٢٠١٩ بحجة إصابة متعاقد في قاعدة عسكرية عراقية تسيطر عليها القوات الأمريكية، وكذلك عندما أقدمت على قتل نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي في مطار بغداد بعد أيام، وإعلان الرئيس الأمريكي لذلك بكل فخر، نجد أن السيد رئيس جمهورية العراق: القائد الأعلى للقوات المسلحة العراقية دستوريا، والممثل الأول للدولة العراقية أرضا وشعبا، يذهب ليلتقي الرئيس الأمريكي ويصافحه في غضون اقل من شهر على ارتكاب الاعتداءين. وهي وإن كانت سابقة لم يقدم عليها رئيس دولة من قبل، إلا أنها أظهرت أن رأس الهرم السياسي في العراق هو مع السياسة الأمريكية في بلاده حتى لو كان ضحاياها عراقيين.
- النخبوية: والمتمثلة ببعض النخب العراقية في الداخل والخارج، والتي ارتبطت مع الولايات المتحدة بوشائج عدة، عادة ما تنبري للتصدي للدفاع عن السياسة الأمريكية ضد العراق، انطلاقا من رؤى وتصورات أمريكية خالصة، منها على سبيل المثال: أن قرار مجلس النواب العراقي بإخراج القوات الأجنبية من البلاد ليس ملزما كون البرلمان سلطة تشريعية وليست تنفيذية، وأن القرار جاء خرقا لقاعدة التوافق كونه جاء بأغلبية شيعية، وأنه قرار سياسي ويفتقر إلى البعد الأمني. وكذا الحال فيما يخص الاعتداءات الإسرائيلية على معسكرات الحشد الشعبي، حيث تسوغ تلك “النخب” ذلك على أنه “دفاع عن النفس” لأن تلك الأسلحة كانت ستذهب إلى حزب الله- لبنان. وكذلك الزعم ان الولايات المتحدة لا تستهدف الحشد الشعبي الذي انبثق لمواجهة داعش، بل تستهدف فقط تلك “الميليشيات المرتبطة بإيران”، وأن الولايات المتحدة قوة عظمى لا يمكن مجابهتها، وغير ذلك من المسوغات اللاوطنية التي تبرر السلوك الأمريكي ضد العراق.
- الإعلامية: فضلا عن القنوات الإعلامية الأمريكية الناطقة باللغة العربية، هناك قنوات فضائية عراقية داعمة للسياسة الأمريكية في العراق.
- الاجتماعية: المتمثلة بالجيوش الإلكترونية المرتبطة بالولايات المتحدة وبسفارتها في بغداد، والتي تنقل التصورات الأمريكية إلى المواطن العراقي عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
- الشعبية: والمعبر عنهم عراقيا بـ (الجوكرية)، وهم فتية عراقيين يتسترون بالحركات الاحتجاجية ويقومون بحرق المؤسسات العامة والخاصة وقطع الشوارع والاعتداء على الأشخاص والممتلكات، وهم خارج نطاقا القانون لان إخضاعهم لحكم القانون يعد أمريكيا انتهاكا لحقوق الإنسان وقمعا للحريات.
يضاف إلى كل ما تقدم تردي الوضع الاقتصادي والصحي في العراق بعد انتشار جائحة كورونا، الأمر الذي زاد من قوة الجانب الأمريكي في مقابل الضعف العراقي.
سادسا- نقاط ضعف أمريكية:
مع نقاط القوة المتعددة التي تتوفق الولايات المتحدة بها، إلا أن هناك نقاط ضعف داخلية وخارجية تمر بها في هذه المرحلة أيضا، لعل أبرزها:
- المشاكل التي واجهت الولايات المتحدة بعد تفشي جائحة كورونا فيها، والتي انعكست على مكانتها الخارجية، وفاقمت من مشاكلها الداخلية، فضلا عن تأثيراتها الاقتصادية.
- مشكلة المظاهرات المندلعة في عدد من المدن الأمريكية، والتي تسببت في انخفاض شعبية الرئيس ترامب.
- التحدي الصيني لسياستها الخارجية، وعدم التعامل بالدولار الأمريكي، وكذلك التحدي الإيراني للعقوبات الأمريكية ونقل النفط إلى فنزويلا.
- الانتخابات الأمريكية وحملتها، حيث يسعى الرئيس ترامب للتوصل إلى اتفاق مع العراق يرفع بموجبه من أسهمه في حملته الانتخابية.
- رغبة الولايات المتحدة في مغادرة المنطقة، وعدم استعدادها لتحمل كلف البقاء- المادية والبشرية- فيها.
سابعا- نقاط قوة عراقية:
إن ما تقدم من نقاط ضعف أميركية، يمكن أن تتحول إلى نقاط قوة عراقية فيما إذا استثمرت ووظفت على نحو سليم.
ويمكن إضافة نقاط قوة أخرى يمكن ان يستثمرها الوطنيون لعل من بينها:
- الإيمان بالعراق كدولة، وبزوال الهيمنة الأمريكية عليه كما زالت القوى الأخرى التي احتلت العراق وهيمنت عليه.
- الإيمان بالروح الوطنية والخبرات العراقية في مسار الإصلاح بعيدا عن الهيمنة الأمريكية.
- استذكار ان الولايات المتحدة منذ بدئها الاعتداءات المباشرة على العراق عام ١٩٩١، وحتى العام ٢٠٠٠، لم تقدم ما فيه نفع للعراق.
- التذكير بأن تبجح الولايات المتحدة بإسقاط الدكتاتورية في العراق وإحلال الديمقراطية محلها ليس دقيقا لأجل الشعب العراقي هو زعم غير دقيق، تنسفه الادبيات السياسية الأمريكية، وكذلك تصريحات الرئيس ترامب نفسه.
- كما أن الولايات المتحدة لا تؤمن بوجود القانون الدولي، وقد تجلى ذلك على نحو واضح في سلوكيات الرئيس ترامب، ومن ثم فأن لا مصداقية في التزامها المستقبلي بأي اتفاق يبرم بينها وبين العراق.
- الإيمان بالقدرات الذاتية العراقية في مجال تعزيز الأمن والدفاع عن العراق، بعد ان تمكن العراقيون من هزيمة ميليشيات داعش ومشروعها الدولي.
- وفوق كل ما تقدم، الإيمان بمشروع المرجعية الدينية التي رفضت الاحتلال ومشروعه في العراق.
ثامنا- قراءة عراقية لـ (الحوار):
في ضوء المعطيات السالفة الذكر في معرفة الأهداف الأمريكية، فإن أمام القوى الوطنية العراقية فسحة يمكن استثمارها في مواجهة الإرادة الامريكية، والإرادات المرتبطة بها، وذلك على أكثر من صعيد منها:
- الصعيد القانوني:
بالإمكان التمسك بالقانون- الدولي والدستوري- للوقوف بوجه أي انتهاك للسيادة العراقية. فالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة يقر للدول جميعا بالسيادة ولا يسمح بانتهاك سيادتها.
كما أن الدستور العراقي النافذ نص على أن العراق دولة مستقلة ذات سيادة.
مع التذكير بأن الولايات المتحدة كانت قد انتهكت السيادة العراقية مرارا عدة، وان لا تكون نتيجة (الحوار) تكريس انتهاك السيادة.
وأن مضمون السيادة شامل لا يتجزأ ولا يختصر في جانب دون آخر.
وضمن إطار السيادة، ومبدأ التعامل بالمثل، نجد إن الولايات المتحدة قتلت عراقيين بعد مقتل متعاقد معها في قاعدة عراقية، وهي تعلم أن الضحايا لم يقوموا بعملية القتل المزعومة، ولم تلجأ إلى الحكومة العراقية لاتخاذ الإجراءات اللازمة وفق قواعد القانون الدولي، وكذا الحال بقصفها منشآت ومواقع عسكرية ومدنية عراقية من بينها مطار كَربَلاء الدولي قيد الإنشاء، زعماً منها أنه رد على مقتل جنديين بريطانيين في قاعدة التاجي العراقية، وهي تعلم أن المواقع المستهدفة لا علاقة لها بالحادثة.
إن ما تقدم لا يعني أن العراق ممكن أن يلجأ إلى الأسلوب الأميركي في القتل، بغض النظر عن الإمكانيات، ولكن من حيث المبدأ على العراق أن لا يخرج عن سياق قواعد القانون الدولي والمواثيق والأعراف الدولية بهذا الصدد. وإذا كانت الولايات المتحدة كـ- دولة- قد أصرت على تقديم المتسببين بحادثة لوكربي إلى القضاء الدولي، والمطالبة بالتعويضات للضحايا من مواطنيها، فإن من حق العراق أيضا كـ- دولة- أن يطالب الولايات المتحدة بتعويضات عن ما تسبب به الاحتلال الأمريكي للعراق من ضرر للبلاد، ومن حق مواطنيه وذوي الضحايا تقديم شكاوى دولية ضد الجنود الأمريكان الذين ألحقوا أضرارا بهم وبممتلكاتهم، شأنهم في ذلك شأن أبناء العديد من ذوي الجنسيات الأخرى الذين تقدموا بشكاوى بهذا الصدد لدى المحكمة الجنائية الدولية جراء اعتداءات الأميركان.
أما إذا ما كان الرد بإن ما يحق لأميركا لا يحق لغيرها، وإن الحق مرتبط بالقوة، فإن ذلك يعني أن الدماء العراقية ستبقى رخيصة، وأن الأراضي العراقية ستبقى مستباحة، وأن صفة (الدولة) ستنتفي عن العراق، فما جدوى (الحوار) وما ينجم عنه من اتفاقات لا ضمانات بالالتزام بها؟
- الصعيد السياسي:
إلزام السيد رئيس مجلس الوزراء بالالتزام ببرنامجه الحكومي، وما أعلن عنه من أسس للسياسة الخارجية العراقية تقوم على التوازن والتعاون والحفاظ على السيادة والابتعاد عن المحاور.
- الصعيد العسكري والأمني:
ضمان سيادة العراق على مؤسساته العسكرية وعدم المساس بأي منها. وكذلك حقه في تنويع مصادر سلاحه.
والتمسك بقرار مجلس النواب العراقي القاضي بإخراج القوات الأجنبية من العراق، والدعوة إلى مواصلة الإجراءات التي اتخذتها وزارة الخارجية العراقية في الحكومة السابقة بهذا الصدد.
وفي المحصلة، فإن المطلب العراقي بإخراج القوات الأجنبية يفترض أن يبقى مطلبا وطنيا قائما لضمان عودة السيادة وعدم عودة الاحتلال.
أما فيما يخص جدولة انسحاب القوات الأجنبية، وفي مقدمتها الأمريكية، فإن ذلك لا يخضع لهذا (الحوار) المرتكز أساسا على اتفاقية الإطار، ذلك أنها أنهت الوجود العسكري الأميركي في العراق نهاية عام ٢٠١١، وإن الوجود الحالي جاء بناءً على طلب تقدم به العراق إلى الأمم المتحدة لغرض مساعدته في مواجهة الإرهاب الداعشي، ومن هنا فإن الأمم المتحدة يجب أن تكون شريكا في أية مفاوضات بهذا الصدد، وأن تكون الإجراءات المتخذة بترتيبات وضمانات دولية.
- على الصعيد الاقتصادي:
أن للعراق وضعه الاقتصادي المعقد، وهو لا يحتمل الابتزاز الأميركي في هذا الجانب، سواء في موضوعة التهديد بالتلويح بالعقوبات، أو حجز ارصدة العراق في الولايات المتحدة، أو تغيير مسارات أنابيب النفط العراقية، أو إرغام العراق على الالتزام بعقوبات تفرضها الولايات المتحدة على دولة أخرى لا مصلحة له فيها، أو قد تضر مصالحه.
ومع الإقرار بضرورة تبني إصلاحات في القطاع الاقتصادي العراقي، إلا أن ذلك لا يعني تبني الانموذج الرأسمالي الأميركي في الاقتصاد، ولا الخضوع لإملاءات المقرضين أو المانحين، بل إسهام الخبرات العالمية في مجال تطوير قطاعات التنمية والاقتصاد في البلاد.
- الصعيد الشعبي:
بما أن نظام الحكم في العراق هو نظام ديمقراطي من حيث المبدأ، وأن الشعب فيه مصدر السلطات، يفترض أن تكون هناك شفافية عالية في اطلاع الشعب على:
- تفاصيل مجريات الحوار، ومحاوره.
- دور السيد وزير الخارجية المثير للجدل في الحوار.
- طبيعة وشخصيات الوفد العراقي المفاوض، والذي يفترض أنهم يمثلون الدولة العراقية لا سواها.
- الموقف الرسمي العراقي من موضوع اعتداءات الولايات المتحدة على العراق أرضا وشعبا. وكيفية الدفاع عن العراق والعراقيين في مواجهة الاعتداءات الأمريكية.
- أن لا يضم الحوار، وما يتمخض عنه بنودا سرية.
- أن لا تحول الولايات المتحدة (الحوار) إلى (خيمة صفوان) ثانية تسحق فيها السيادة العراقية من جديد.
- على الصعيد الإعلامي:
تكثيف الجهود في توعية أبناء الشعب العراقي بمخاطر وغايات المشروع الأمريكي المقبل في العراق، وإن على الفرد العراقي أن يأخذ دوره التاريخي في هذا المفصل الزمني، فإما أن ينهض العراق من جديد، أو يعود حلبة صراع خارجية مرة أخرى.
تاسعا- الولايات المتحدة وما بعد (الحوار):
وبعد كل ما تقدم، وإذا كانت الولايات المتحدة تمتلك كل هذه القوة، وتستخدمها بالفعل، ولا تلتزم بقواعد القانون الدولي، والمواثيق الدولية بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة، فما هو المتوقع إذاً؟
في الحقيقة أنه لا مجال للتوقعات في ظل السياسة الخارجية الأمريكية التي ترتكز على القوة حتى في دبلوماسيتها. فالاحتلال الأميركي للعراق تم بدون اللجوء إلى الأمم المتحدة التي أنشأت أساسا لحفظ الامن والسلم الدوليين، وكذا الحال بفرضها للعقوبات الاقتصادية على عدد من دول وشعوب العالم دون مسوغ قانوني، وقتلها لآلاف العراقيين دون اللجوء إلى الأعراف والقواعد الدبلوماسية، واعتداءاتها المتكررة على الأراضي العراقية دون عرض المشكلة على الحكومة العراقية والتفاوض معها، ناهيك عن إقرارها بسرقة آثار ووثائق عراقية، وغير ذلك الكثير. فلماذا (الحوار) إذاً؟
يبدو أن الغرض الأميركي من (الحوار) هو اكتساب الصفة (الشرعية) للهيمنة الأمريكية على العراق. وعلى نحو تكون فيه الحكومة العراقية هي الضامن الرسمي للمصالح الأمريكية في العراق والحامي الشرعي لها، وتتحمل المسؤولية الدولية في حال تلكؤها وتقصيرها في ذلك.
ويعود ذلك الاندفاع الأميركي نحو (الحوار) بعد أن أدركت الولايات المتحدة تآكل شرعيتها على الصعيدين الداخلي الأميركي والخارجي، وما ترتب عليه من اهتزاز لهيبتها وتراجع لمكانتها في ظل المتغيرات الدولية الجديدة في مرحلة (كورونا) وما بعده، أو ما يعرف عراقيا بـ(العالم ما بعد المطار)، حينما أعلن الرئيس ترامب بأن العالم والولايات المتحدة سيغدوان أكثر أمناً بعد أوامره بقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني والقيادي العراقي أبو مهندي المهندس على الأراضي العراقية في مطار بغداد الدولي المدني.
فالولايات المتحدة أدركت أن نقاط ضعفها التي أوردناها قد تتحول إلى نقاط قوة دولية لخصومها، وإذا لم يتمكن العراق من استثمار ذلك، فإن الصين وروسيا وإيران ولربما غيرهم من الدول قد تتمكن من ذلك وتسهم في تعديل توازنات القوى الدولية في المنطقة، إن لم نقل تغييرها.
ويبقى السؤال، ماذا لو فشل الحوار؟
يقينا ان الإجابة ستكون متوقعة بسهولة في ضوء معطيات السلوك الخارجي الأمريكي: قتل قيادات في الحشد الشعبي، تصفية مسؤولين عراقيين متقاطعين مع الخط الأمريكي جسديا عبر الاغتيال، أو سياسيا عبر اثارة شبهات الفساد، استهداف البنى التحتية العراقية، تحريك (الجوكرية) في الشوارع، حجز الأموال العراقية وفرض عقوبات اقتصادية وتجويع الشعب العراقي مرة أخرى، وماذا بعد؟
في الحقيقة ان الاستمرار في هكذا سلوك غدا مكلفا على الجانب الأميركي إلى حد غدت فيه فداحة الثمن أكبر من المكاسب المفترضة. وأن الولايات المتحدة اذ تهدد بقبضتها الحديدية الا أن الركون اليها لوحدها غدا غير مضمون النتائج ولا محمود العواقب.
أما العراق، فإن المتتبع لمسار علاقات الولايات المتحدة تاريخيا معه، فلا يحتاج إلى جهد كبير ليكتشف معادلة أنه كلما اقتربت الولايات المتحدة من العراق أكثر، كلما ازداد وضع العراق سوءا أكثر. فمنذ القطار الإنكلو- أميركي عام ١٩٦٣، إلى دفع الولايات المتحدة للعراق في حرب طاحنة ضد إيران عام ١٩٨٠ استنزفته اقتصاديا وعسكريا وبشريا، إلى دفعه نحو غزو الكويت عام ١٩٩٠، وتدميره اقتصاديا وعسكريا وديمغرافيا بعد ذلك، إلى احتلاله المباشر عام ٢٠٠٣، كلها محطات تدهور في تاريخ العلاقات الأميركية- العراقية. فما ذا تريد الولايات المتحدة من العراق عام ٢٠٢٠؟ وماذا يأمل العراق منها بعد؟
هنا لا بد للعراق أن يأخذ مصالحه بعين الاعتبار، وأن يصل إلى لحظة الحقيقة التي عليه فيها أن يحدد مسار مستقبله، فإذا نجح الحوار بما يضمن مصالح الأطراف كافة، ووفقا لقواعد القانون الدولي والمواثيق الدولية، كان بها. وإلا، فأن ليس للعراق ما يخسره بعد، بعد أن خسر أمواله وأولاده وسيادته، وأمامه كل السبل المتاحة والمشروعة للدفاع عن سيادته أرضاً وشعباً، سيما إذا استشعر بأن احتلالاً جديدا يتهدد مستقبله كدولة.
لكنه سيبقى (دولة) تشغل مكانا في قلب العالم، فهكذا حدثنا التاريخ والجغرافية، وهكذا نحدث المستقبل.