تحليلات واراء
الإرهاب الإلكتروني في سياق مجزرة نيوزيلندا
بقلم: فادي محمد الدحدوح
خبير في البحث العلمي والدراسات
إن الجماعات المتطرفة كانت من أوائل الجماعات الفكرية التي تسابقت لدخول العالم الإلكتروني، ولعل «Tom Metzger» أحد أشهر نماذج اليمين المتطرف في أمريكا، ومؤسس مجموعة White Aryan Resistance كان مثالاً حياً لبث الإرهاب الفكري سنة 1985 م، وقد تعاقبت ظهور مواقع تابعة لجماعات متطرفة من الولايات المتحدة وأوروبا وتحديداً أستراليا ثم بقية دول العالم، وعبر هذه المراحل المختلفة كانت شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي حديثاً في عمق دائرة ترويج ثقافة التطرف والعنف والإرهاب لتعبر عن أفكارهم الصاخبة المنحرفة.
الإرهاب الإلكتروني عبارة عن عملية تتمثل في توظيف شبكة الإنترنت بوسائلها المختلفة والخدمات الإلكترونية المرتبطة من خلالها في نشر وبث واستقبال وإنشاء المواقع والخدمات التي تسهل انتقال وترويج المواد الفكرية المغذية للتطرف الفكري وخاصة المحرضة على العنف أياً كان الشخص أو الجماعة التي تتبنى وتشجع كل ما من شأنه توسيع دائرة ترويج مثل هذه الأفكار المتطرفة؛ لذا أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي تؤثر تأثيراً مباشراً في الأمن القومي للمجتمعات واستقرارها، ويظهر جلياً ذلك من خلال نموذج أحداث مجزرة نيوزيلندا حيث تحريض وعنف وبث الأفكار والاعتقادات المتطرفة، لينتهي الأمر بمجزرة دامية جماعية بحق أبرياء ساجدين.
إن تتبع دقيق لمجزرة نيوزيلندا يرى أن مرتكب الجريمة استخدم العنف المادي والعنف الرمزي، فالأول يلحق الضرر بالموضوع الذي يمارس عليه العنف من خلال عملية التهديد المباشر والممارسة الفعلية للقتل غير المبرر، أما العنف الرمزي فيلحق ذلك الضرر بالموضوع على المستوى النفسي بأن يكون في الشعور الذاتي بالأمن والطمأنينة والكرامة والاعتبار والتوازن، ويتمثل ذلك فيما قام به مرتكب الجريمة من اعتبار المهاجرين أعداء وغزاة يجب محاربتهم.
وما يظهر من تفاعل قبل وبعد المجزرة يرى أن لغة الخطاب في الفضاء الإلكتروني لليمين المتطرف وعناصره عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات والمجموعات الإلكترونية يتسم بالعدوانية والدعوة للقتل والعنف والانفعال مع الخصوم وتهيمن على موضوعاتهم لغة انفعالية عاطفية لا تقبل المخالف ولا تحاوره، وفي معظم الطرح الفكري لبعض هذه الجماعات يمكن ملاحظة الكثير من عدم الكفاءة الفكرية في قراءة حقائق الواقع وتغليب المنطق ولغة الحوار والخطاب المنهجي للأحداث.
كما أن فئة الشباب هم أكثر الفئات تفاعلاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وعبره ينشط اليمين المتطرف ليوجه تأثيره لهذه الفئة المهمة ليزرع صخب الأفكار المنحرفة لديهم، وتشكيل قناعات الشباب، ومما لا شك فيه أن التأثير الثقافي والفكري التراكمي سيكون ذات تأثير فاعل لفئة تتسم في مراحل مبكرة من العمر بعدد من الخصائص النفسية والسلوكية التي تميز شخصيتهم عن غيرهم، ومن أهمها النشاط والحماس، والنزعة النزعة للتجريب والاستثارة، وسرعة الملل والرغبة في التغيير، كما أن هناك فئة منهم تعاني من الفراغ والتفكك ما يجعلهم عرضة للجرائم والاستغلال والانحراف بشكل أكبر.
إن تتبع الفضاء الإلكتروني لهذه الجماعات وعناصرها يرى أن لديهم معالم منهج إقناعي ومؤثر يؤدي بمن ينخرط فيه ويلامس هوى نفسه إلى اعتناق هذه الأفكار المنحرفة، ليصبح عضواً مناصراً فاعلاً مؤيداً لأطروحاتهم، وما حادثت المجزرة المرتكبة إلا خير دليل، عبر تمجيد أسماء وسيرة شخصيات معاصرة وتاريخية وانتقاء ما يتناسب من مواقفها وآرائها لدعم وتعزيز التطرف الفكري لهذه التنظيمات وترويجه بين فئات المجتمعات ولا سيما الشباب باستثمار حماسهم وقلة معرفتهم.
إن التفاعل عبر مواقع التواصل الاجتماعي أصبح ذات أبعاد خاصة بعد المجزرة، حيث تنامت دعوات اليمين المتطرف للتمجيد والتعظيم ومواصلة طريق الإرهاب بجميع أشكاله وصوره، ويحضرني هنا حديث الاكاديمي المختص في شؤون الإرهاب جبريل ويمان، حينما قال أن ما يقرب من 90% من الإرهاب المنظم على شبكة الإنترنت يتم عبر منصّات وسائل الإعلام الاجتماعية مثل “تويتر” و”الفيسبوك” و”اليوتيوب” ومنتديات الإنترنت، كونها أدوات خطاب سهلة المنال وسريعة ومنتشرة بشكل واسع، وتُخاطِب الجمهور مباشرة من غير قيود، ومن دون مواجهة شروط نشر أو عمليات انتقائية، في حين كانت هذه الجماعات قبل عصر مواقع التواصل الاجتماعي، تعاني من إيصال رسائلها على نطاق واسع، عدا ما تمكّنت منه في إيصال بعض بياناتها وخطب زعمائها إلى الجمهور بواسطة الفضائيات.
الإرهاب الإلكتروني في سياق مجزرة نيوزيلندا أثبت بالدليل القاطع إن لهذه المنابر “الإرهابية” الافتراضية، نتائج عكسية كشفت عن الوجه “القبيح” للإرهاب الأسود، بقدرتها على تهديد الأمن والاستقرار الاجتماعيّين، والتأثير في الأوضاع السياسية والاقتصادية، وخلق حالة من الذعر والفوضى في المجتمعات المستهدفة.