ابحاث ودراساتسلايدر
الدولة واللادولة في العراق – الجزء 29
إعادة إحياء حزب البعث (المنحل) بين المنع الدستوري والتطبيع العملي
الدكتور مصدق عادل
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
تصاعدت في الأيام السابقة بعض الإتجاهات الحكومية والقضائية المتعلقة بحزب البعث (المنحل)، ومحاولة البعض استغلالها لغرض إعادته إلى ممارسة السلطة والمشاركة في التعددية السياسية في العراق، وبهذا يتوجب تتبع المراحل التاريخية التشريعية للمنع والحظر المفروض على حزب البعث (المنحل) وبيان الابعاد الدستورية والسياسية وصولاً إلى الواقع الدستوري والقضائي الجديد.
في البدء فإنَّ عملية تطهير الجهاز الحكومي والوظيفي من النظام الحزبي المهيمن أو الحاكم في العراق لم تكن تجربة جديدة، إذ سبق وان سار المشرع العراقي على هذه التجربة بإصداره قانون تطهير الجهاز الحكومي رقم (2) لسنة 1958.
وبناء على ما تقدم مرت عملية إعادة صياغة مشروع اجتثاث حزب البعث (المنحل) في العراق بالعديد من المراحل قبل أنْ تصل إلينا بصورتها الحالية، إذ ابتدأت العملية بمخرجات مؤتمر المعارضة العراقية المنعقد في لندن يومي 14 و15 كانون الأول 2002 في ظل الرؤية المقترحة للإدارة العراقية الجديدة، ثم تلا ذلك تفويض عملية اجتثاث البعث إلى وزارة الدفاع الامريكية (البنتاغون) وفقاً للأمر الرئاسي للأمن القومي رقم 24 في 20 يناير 2003، وتطبيقاً لذلك وبعد احتلال العراق اصدر المدير الإداري لسلطة الاحتلال أمر سلطة الائتلاف (المنحلة) تطهير المجتمع العراقي من حزب البعث رقم (1) لسنة 2003[1]، إذ نص القسم (1) منه :
1- حلت السلطة الائتلافية المؤقتة في العراق حزب البعث العراقي يوم 16 نيسان 2003. ينفذ هذا الأمر الإعلان بحل الحزب عن طريق الغاء هياكل الحزب وإطاراته واقصاء قياداته عن مراكز السلطة والمسؤولية في المجتمع العراقي. ويعني هذا أنَّ السلطة الائتلافية المؤقتة في العراق تضمن عن طريق هذا القرار عدم تعرض الحكومة الممثلة لشعب العراق لخطر عودة عناصر حزب البعث إلى السلطة, كما يضمن هذا القرار أنَّ من يشغلون مناصب السلطة في المستقبل سيكونون محل قبول الشعب العراقي.
2- يتم بموجب هذا الامر اقصاء كبار اعضاء حزب البعث العراقي عن مراكزهم وهم من يتمتعون بالرتب التالية. عضو القيادة القطرية وعضو الفرع وعضو الشعبة وعضو الفرقة ويشار لهم جميعا بعبارة كبار اعضاء الحزب ويحظر عليهم في المستقبل العمل في اي وظيفة في القطاع العام , وسوف يتعرضون للتحريات ولتقييم مدى ما ارتكبوه من ممارسات اجرامية أو ما يشكلونه من خطر على أمن الائتلاف”[2].
ولتسهيل تنفيذ هذا الامر التشريعي فقد تم اصدار مذكرة سلطة الائتلاف المؤقتة (المنحلة) المتعلقة بتنفيذ أمر تطهير المجتمع العراقي من حزب البعث رقم (1) في 3/6/2003[3].
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد فحسب، بل تعداه إلى إصدار سلطة الاحتلال أمر حل الكيانات العراقية رقم (2) لسنة 2003 الذي تضمن في الملحق حل (ميليشيات حزب البعث)[4]، وتلا ذلك إصدار أمر سلطة الائتلاف المؤقتة (المنحلة) إدارة ممتلكات واموال حزب البعث العراقي رقم (4) لسنة 2003 الذي تضمن مصادرة ممتلكات واموال حزب البعث العراقي أينما وجدت[5]، ومن ثم صدر الأمر رقم (7) لسنة 2003 (أمر تفويض الصلاحيات بموجب الامر رقم 1 تاريخ 16/5/2003والخاص بتطهير العراق من حزب البعث)[6].
وتوالت المعالجات التشريعية لحظر حزب البعث وافراده بإصدار قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لسنة 2004، إذ نصت المادة (49) منه على اعتبار تأسيس الهيئات الوطنيـة كالهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث مصدّقاً عليه ويستمرّ أعضاء هذه الهيئات الوطنيــة بعملهــم بعـد نفاذ هذا القانـون ، مع مراعـاة ما ورد في المـادّة(51).
كما حددت المادة (31) من القانون وجوب عدم شمول عضو السلطة التشريعية بحظر البعث كأساس للترشيح، إذ نصت ” 2- ألاّ يكون عضواً في حزب البعث المنحل بدرجة عضو فرقة أو أعلى إلاّ إذا استثني حسب القواعد القانونية.3- إذا كان في الماضي عضواً في حزب البعث المنحل بدرجة عضو عامل يجب عليه أن يوقّع وثيقة براءة من حزب البعث يتبرّأ فيها من كافّة ارتباطاته السابقة قبل أن يحقّ له أن يكون مرشحاً، وأن يقسم على عدم التعامل والارتباط بمنظمات حزب البعث. وإذا ثبت في محاكمة أنّه كان قد كذب أو تحايل بهذا الشأن فإنّه يفقد مقعده في الجمعية الوطنية”.
وينطبق الحكم ذاته بالنسبة إلى السلطة التنفيذية، إذ اشترطت المادة (36) من القانون “3- أنٍ يكون قد ترك الحزب البائد قبل سقوطه بعشر سنوات على الأقل، إذا كان عضواً في حزب البعث المنحل.4- ألاّ يكون قد شارك في قمع الانتفاضة عام 1991، والأنفال ولم يقترف جريمة بحقّ الشعب العراقي”.
وايماناً من لجنة كتابة الدستور بأهمية إقصاء حزب البعث (المنحل) من المشاركة في العملية السياسية الجديدة فقد تم النص على العديد من النصوص التي تحظر حزب البعث من العمل السياسي في العراق، إذ تنص المادة (7) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 على انه ” أولاً: يحظر كل كيانٍ أو نهجٍ يتبنّى العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي، أو يحرض أو يمهد أو يمجد أو يروج أو يبرر له، وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه، وتحت أي مسمى كان، ولا يجوز أنْ يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق، ويُنظم ذلك بقانون”. كما نصت المادة (135) من الدستور على انه:
أولاً: تواصل الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث أعمالها بوصفها هيئة مستقلة، بالتنسيق مع السلطة القضائية والأجهزة التنفيذية في إطار القوانين المنظمة لعملها، وترتبط بمجلس النواب.
ثانياً: لمجلس النواب حل هذه الهيئة بعد انتهاء مهمتها بالأغلبية (المُطلقة).
ثالثاً: يُشترط في المرشح لمنصب رئيس الجمهورية، ورئيس وأعضاء مجلس الوزراء، ورئيس وأعضاء مجلس النواب، ورئيس وأعضاء مجلس الاتحاد، والمواقع المتناظرة في الأقاليم، وأعضاء الهيئات القضائية، والمناصب الأخرى المشمولة باجتثاث البعث وفقاً للقانون، أنْ يكون غير مشمول بأحكام اجتثاث البعث .
رابعاً: يستمر العمل بالشرط المذكور في البند (ثالثاً) من هذه المادة، ما لم تحل الهيئة المنصوص عليها في البند (أولاً) من هذه المادة.
خامساً: مجرد العضوية في حزب البعث المنحل لا تُعد أساساً كافياً للإحالة إلى المحاكم، ويتمتع العضو بالمساواة أمام القانون والحماية، ما لم يكن مشمولاً بأحكام اجتثاث البعث، والتعليمات الصادرة بموجبه .
سادساً: يُشكل مجلس النواب لجنة نيابية من أعضائه لمراقبة ومراجعة الإجراءات التنفيذية للهيئة العليا لاجتثاث البعث ولأجهزة الدولة، لضمان العدل والموضوعية والشفافية، والنظر في موافقتها للقوانين، وتخضع قرارات اللجنة لموافقة مجلس النواب”.
وتطبيقاً لما تقدم أصدر مجلس النواب العديد من القوانين التي منعت أعضاء حزب البعث وقياداته من الاشتراك في العملية السياسية منها قانون الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة رقم (10) لسنة 2008[7]، وقانون حظر حزب البعث والكيانات والاحزاب والانشطة العنصرية والارهابية والتكفيرية رقم (32) لسنة 2016[8]، وكذلك قانون انتخابات مجلس النواب رقم (9) لسنة 2020 الذي منع في المادة (8/ثانياً) منه ترشيح من كان مشمولاً بقانون هيئة المساءلة والعدالة أو أي قانون اخر يحل محله.
وعلى الرغم من هذه المنظومة الدستورية والقانونية المتكاملة التي تشكل واجبات والتزامات مفروضة على جميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية غير أنَّ الواقع العملي السياسي قد جرى على اناطة بعض مناصب الوزراء بأشخاص مشمولين بقانون الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة، يستوي ذلك في تشكيل الحكومة الحالية أو الحكومات السابقة، بل تعداه الأمر إلى صدور العديد من القرارات القضائية من الهيئة التمييزية المختصة بنظر الطعون المقدمة قضايا المساءلة والعدالة[9] وآخرها القرار رقم 401/تمييزية مساءلة وعدالة/2021 في 22/6/2021 والتي قررت فيه ” إن قضاء هذه الهيأة قد استقر على أنَّ العضو في حزب البعث المنحل لا يكون مشمولاَ بالمادة 6/ثامناً من قانون الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة رقم 10 لسنة ۲۰۰۸ إلا إذا ثبت بموجب حكم قضائی بات إثرائه على حساب المال العام”.
وقد استندت الهيئة التمييزية إلى عدة أسس منها: إنَّ الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة لم تقدم الحكم القضائي البات، ومن ثم فلا يكون ذلك مانعاً للمرشح (م.م.ن.ف) من حق الترشح في الانتخابات، كما استندت إلى المادة (20) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 التي كفلت لكل مواطن حق المشاركة في الشؤون العامة والتمتع بالحقوق السياسية بما فيها حق التصويت والانتخابي والترشيح.
وبهذا القرار فإنه يمكن القول بأنَّ الهياة التمييزية للمساءلة والعدالة في محكمة التمييز الاتحادية قد خالفت نصوص الدستور والقوانين النافذة في العديد من الأوجه الآتية:
1-مخالفة المادة (7/اولاً) من الدستور التي تنص على أنْ “أولاً: يحظر كل كيانٍ أو نهجٍ يتبنّى … أو يحرض أو يمهد أو يمجد أو يروج أو يبرر له، وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه، وتحت أي مسمى كان، ولا يجوز أنْ يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق، ويُنظم ذلك بقانون” اذ ان القاعدة العامة تتمثل في ان نصوص الدستور تشكل وحدة واحدة متجانسة، ولا يجوز تفسير بعض نصوص الدستور بمعزل عن النصوص الأخرى، ومن ثم فلا يجوز للهيئة التمييزية ان تفسر المادة (135/خامساً) من الدستور بمعزل وانفصال عن المادة (135/ثالثاً) والمادة (7/اولاً) من الدستور.
2-لم تراعِ الهياة التمييزية المنع الوارد في المادة (7/اولاً) من الدستور لحزب البعث (المنحل) الذي يوصف بأنه منعاً مطلقاً وشاملاً وغير مقيداً بقيد زمني يحول دون المشاركة في العملية السياسية بأي وجه من الأوجه، وبصياغات محددة (البعث الصدامي) و(لا يكون ذلك ضمن التعددية السياسية)، وهو الأمر الذي يمكن معه القول أنَّ تفسير الهيئة التمييزية المذكور اعلاه يعد معيباً بعيب جوهري وهو التعسف في استعمال السلطة، فلا يجوز للمحكمة أنْ تستند إلى حرفية نص المادة (135/خامساً) من الدستور، ولا تكمل الالتزامات الأخرى المفروضة عليها وعلى باقي السلطات الاخرى، والقفز على الحظر الدستوري المفروض منع حزب البعث من التعددية السياسية ومن المشاركة في السلطات العامة التشريعية والتنفيذية.
3-عدم دقة الحيثيات والأسباب التي استندت إليها الهياة التمييزية، فضلاً عن ضعفها الدستوري والقانوني، ففي الوقت الذي استندت فيه الهياة إلى المادة (20) من الدستور، نجد بالمقابل تجاهلها للمواد (7/اولاً) و(135) من الدستور، فضلاً عن عدم استنادها إلى أسباب واقعية حقيقية، بل تتنافى مع الغاية التي تم تجريم حزب البعث (المنحل) على أساسها، والنص على ذلك في الدستور المستفتى عليه من الشعب، وحيث أنَّ الحكم القضائي يفترض فيه أنْ يكون عنواناً للحقيقة كما توجبه القواعد العامة في قانون المرافعات المدنية رقم (83) لسنة 1969[10]، مما يجعل قرار المحكمة غير ملزم وغير واجب الاتباع وفق المادة (17) من قانون الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة رقم (10) لسنة 2008،وذلك لمخالفته الجسيمة لنصوص الدستور واحكامه، سيما وانه يتعارض مع الفكرة القانونية السائدة وفلسفة الدستور وروحه المعبرة عنها في العديد من نصوص الدستور وفي ديباجته.
4-فضلاً عن الانتهاك الدستوري للمواد أعلاه فإنَّ الهيئة التمييزية قد خالفت احكام المادة (93/ثانياً) من الدستور، التي حددت الجهة المختصة بتفسير نصوص الدستور وحصرتها بالمحكمة الاتحادية العليا، ومن ثم فلا يجوز لهذه الهيئة التمييزية ان تنسد في حيثياتها على نصوص الدستور وتفسرها وفق الإرادة والرؤية الشخصية، فلا يجوز لها ان تحل إرادة رئيس وأعضاء الهيئة التمييزية محل إرادة الإباء المؤسسين الذين قاموا بكتابة دستور جمهورية العراق لسنة 2005، إذ إنَّ هذه المهمة من اختصاص المحكمة الاتحادية العليا حصراً، وهو الامر الذي يجيز للهيئة الوطنية للمساءلة والعدالة اللجوء إلى المحكمة الاتحادية العليا لغرض تفسير المنع الدستوري لحزب البعث المنحل من المشاركة في التعددية السياسية وبضمنها الترشيح لعضوية مجلس النواب.
5-مخالفة الهياة التمييزية للمادة (6/ثامناً) من قانون انتخابات مجلس النواب رقم (9) لسنة 2020، اذ ان الشرط جاء بصورة صريحة وواضحة، وهو ان لا يكون مشمولاً بقانون المساءلة والعدالة، ومن ثم فلا يجوز للهيئة التمييزية أنْ تطبق النص الدستوري وهو المادة (135/خامساً) من الدستور بمعزل عن باقي النصوص الدستورية والقانونية التي تحكم موضوع النزاع.
6-تناقض قرار الحكم في منطوقه ومحتواه ومبناه، إذ نجد أنَّ المحكمة ربطت بين ضرورة قيام الهيئة الوطنية العليا بتقديم قرار حكم يثبت صدور حكم بات عن المرشح لعضوية مجلس النواب عن جريمة الاثراء غير المشروع المنصوص عليه في المادة (135/خامساً) من الدستور وبين حرمان المرشح من الترشيح لعضوية مجلس النواب، وحيث أنَّ الاخذ بالمنطق الذي انتهت إليه المحكمة يتعارض مع فلسفة المشرع الدستوري المعبر عنها في نصوص الدستور والتي تهدف إلى منع حزب البعث (المنحل) من المشاركة في التعددية السياسية في العراق، وحيث أنَّ المحكمة قد اغلفت هذا الجانب الدستوري المهم في قرارها، وهو الأمر الذي يجعل منها قد انتهكت نصوص الدستور وافرغتها من محتواها وروحها.
7-مخالفة المحكمة لمبدأ الفصل بين السلطات المنصوص عليه في المادة (47) من الدستور، إذ إنَّ وظيفة المحكمة محددة بالفصل في النزاع المعروض امامها، وليس تفسير نصوص الدستور، أو تعديل وصف الجرائم والعقوبات بمعزل عن القوانين التي أصدرها مجلس النواب العراقي، يستوي في ذلك قانون الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة رقم (10) لسنة 2008 أو قانون حظر حزب البعث والكيانات والأحزاب والأنشطة العنصرية والإرهابية والتكفيرية رقم (32) لسنة 2016 ، وحيث ان المحكمة ربطت بين الجريمتين (جريمة الانتماء إلى حزب البعث)، وبين جريمة الاثراء غير المشروع (الكسب غير المشروع) لذا يكون قرارها قد جانب الدستور والقانوني ويتوجب تصحيحه.
8-كما إنَّ قرار الهياة التمييزية يخالف مبدأ سمو الدستور المنصوص عليه في المادة (13) منه التي تنص ” ثانياً: لا يجوز سن قانون يتعارض مع هذا الدستور ويعد باطلاً كل نص يرد في دساتير الأقاليم أو أي نص قانوني اخر يتعارض معه”، وحيث أنَّ الهياة التمييزية حكمت في قرارها أعلاه خلاف نصوص الدستور (المادتان (7/ثانياً) و(135)) لذا يكون قرارها باطلاً بطلاناً مطلقاً، فإذا كان البطلان المقرر وفق المادة (13/ثانياً) من السدتور جزاء وفاقاً لكل نص قانوني يرد في دستور الإقليم أو القانون الاتحادي أو قانون الإقليم، لذا يكون البطلان – من باب أولى- مقرراً للاحكام القضائية التي تقرر احكاماً خلافاً لنصوص الدستور وفلسفته.
9-كما إنَّ قرار الهياة التمييزية للمساءلة والعدالة يتعارض مع مبدأ السيادة الشعبية، إذ إنَّ الشعب قد اتجهت ارادته المعبر عنها في الاستفتاء الذي تم في 15/10/2005 إلى منع حزب البعث (المنحل) من المشاركة في التعددية السياسية واقصائه نهائياً من سدة الحكم وفقا ًلاحكام المواد (5) و(7/اولاً) و(135) من الدستور، وهو الامر الذي لم تلتزم به الهياة التمييزية مما يجعل قرارها باطلاً نتيجة عدم التزامها بمبدأ السيادة الشعبية ومبدأ سمو الدستور وتدرج القواعد القانونية في الدولة.
10-مخالفة الهياة التمييزية لعشرات القرارات السابقة الصادرة منها التي قضت بتأييد قرار الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة بشمول العضو باجراءات قانون الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة، مما يثير الشك والريبة حول السلوك القضائي الذي سارت عليه المحكمة في هذا القرار؟.
11-حتى إذا ما تجاوزنا هذه الحجج وانتقلنا إلى ديباجة الدستور نجد أنها اشارت إلى معاناة ومأساة المواطنين العراقيين على ايدي حزب البعث وزبانيته المجرمين في ظل بشاعة الجرائم المرتكبة ضد مكونات الشعب العراقي واطيافه المتنوعة والتي عبرت عنها الديباجة ” مُستذكرينَ مَواجِعَ القَمْعِ الطائفي من قِبَلِ الطُغْمةِ المستبدةِ، ومُسْتلهمين فَجَائعَ شُهداءِ العراقِ شيعةً وسنةً، عرباً وَكورداً وَتُركُماناً، وَمن مُكَوِنَاتِ الشَعبِ جَمِيعِها، وَمُستوحِينَ ظُلامةَ اسْتِبَاحَةِ المُدُنِ المُقَدَسةِ وَالجنُوبِ في الانتِفَاضَةِ الشَعْبانيةِ، وَمُكَتوينَ بِلظى شَجَنِ المَقاَبرِ الجَمَاعيةِ وَالأَهْوارِ وَالدِجيلِ وَغيرها، وَمُسْتَنْطِقينَ عَذاباتِ القَمْعِ القَومي في مَجَازرِ حَلَبْجةَ وَبارزانَ وَالأنْفَال وَالكُوردِ الفَيلِيينَ، وَمُسْتَرجِعينَ مَآسِي التُركُمَانِ في بَشِير، وَمُعَانَاةِ أَهَالي المنْطَقَةِ الغَربيةِ كبقيةِ مَنَاطِقِ العِراقِ منْ تَصْفيةِ قيِاداتها وَرُمُوزها وَشُيوخِها وَتَشريدِ كفاءاتها وَتَجفيفِ مَنابِعها الفِكْرِيَةِ وَالثَقافيةِ”
ومع الإقرار بعدم الزامية ديباجة الدستور الا انها تحمل القيم الأساسية التي يتوجب على جميع السلطات الاستهداء بها في عملها وفصلها في المنازعات المعروضة امامها، والقول بخلاف ذلك معناه تعطيل نصوص الدستور وانتهاك احكامه، وهو ما تحقق في قرار الهياة التمييزية للمساءلة والعدالة المذكور أعلاه.
12-وما يدلل على عدم دستورية القرار الصادر من الهياة التمييزية هو الاستقلال هو انه تغافل عن التنظيم القانوني لكل من جريمة الانتماء إلى حزب البعث (المنحل) وجريمة الكسب غير المشروع، اذ ان القاعدة العامة هي ان وقوع الجريمة المذكورة وهي (جريمة الانتماء إلى صفوف حزب البعث بدرجة عضو فما فوق) يعد جريمة مستقلة عن جريمة الاثراء غير المشروع، اذ ان المشرع العراقي قد خصص العديد من نصوص قانون الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة رقم (10) لسنة 2008 لغرض تجريم الانتماء والاستمرار في عضوية حزب البعث (المنحل)، بل تعداه الامر إلى قيام المشرع بإصدار قانون حظر حزب البعث والكيانات والأحزاب والأنشطة العنصرية والإرهابية والتكفيرية رقم (32) لسنة 2016، اذ تنص المادة (8) منه على انه:
اولاً: يعاقب بالسجن مده لأتزيد على (10) عشر سنوات بعد نفاذ هذا القانون كل من انتمى إلى حزب البعث المحظور أو روج لأفكاره وأرائه بأية وسيلة أو هدد أو كسب إي شخص للانتماء إلى الحزب المذكور.
ثانياً: تكون العقوبة السجن مده لا تقل عن (10) عشر سنوات إذا كان الفاعل من المنتمين إلى حزب البعث قبل حله أو من المشمولين بإجراءات المساءلة والعدالة). فضلاً عن ذلك فان جريمة الاثراء بدون سبب (الكسب غير المشروع) معاقب عليها بصورة مستقلة عن جريمة الانتماء إلى حزب البعث (المنحل) وفق المادة (16) من قانون هياة النزاهة والكسب غير المشروع رقم (30) لسنة 2011 المعدل 2019، وهو الامر الذي لم يصار إلى مراعاته من قبل الهياة التمييزية للمساءلة والعدالة، مما يجعل قرار المحكمة مبنياً على أسباب غير دستورية وغير قانونية، لا تصلح للاخذ بها.
ويمكن القول انه تتمثل الابعاد الخطيرة لهذا القرار في أنه يحول جريمة الانتماء إلى حزب البعث المجرمة وفق المادة (8) من قانون حظر حزب البعث رقم (32) لسنة 2016 إلى جريمة مرتبطة بجريمة الكسب غير المشروع، وحيث ان ظر حزب البعث ومنعه من المشاركة في التعددية السياسية في العراق قد أحال المشرع الدستوري تنظيمه في المادة (7/اولاً) من الدستور إلى القانون، وحيث ان مجلس النواب قد اصدر القانون رقم (32) لسنة 2016 خلافاً للمنطوق الذي ذهبت اليه الهياة التمييزية من الإقرار بشمول المنتمي لحزب البعث من الترشيح لانتخابات مجلس النواب خلافاً للمواد المذكورة، وخلافاً للمنطوق الصريح والواضح للمادة (6/ثامناً) من قانون انتخابات مجلس النواب رقم (9) لسنة 2020 لذا فان قرار المحكمة يعد باطلاً وليس بالإمكان الاستناد اليه وتنفيذه كونه يتعارض مع نصوص الدستور ومع نصوص القوانين النافذة.
كما أتتمثل الابعاد السياسية لهذا القرار بزعزعة اركان النظام السياسي العراقي الذي قام على انقاض حزب البعث (المنحل) وعدم السماح له بالمشاركة في التداول السلمي للسلطة، الا بعد اجراء التعديل الدستوري أو الغاء قانون الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة وفق المادة (135) من الدستور وبناء على قانون يصدره مجلس النواب، وليس بناء على قرار صادر من الهياة التمييزية المختصة بقضايا المساءلة والعدالة.
وفضلاً عن ذلك فإنَّ الاخذ بقرار الهياة التمييزية وتطبيقه على المرشحين لعضوية مجلس النواب معناه إحلال التطبيع السياسي وتغليب الاتفاقات السياسية بموضوع مشاركة حزب البعث (المنحل) في التعددية السياسية في العراق وتسهيل وصوله مجدداً إلى السلطة على حساب النصوص الدستورية والقانونية، مما يعني إحلال الواقع السياسي محل النصوص الدستورية والقانونية.
وبناء على ما تقدم وبالنظر لاساءة استعمال السلطة الممنوحة للهياة التمييزية للمساءلة والعدالة، وعدم استناد القرار إلى أسباب واسانيد دستورية وقانونية سليمة فإننا ندعو إلى معالجة ذلك وفق الآليات الآتية:
1-ندعو رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس الادعاء العام إلى تقديم طعن لمصلحة القانون وفقا ًلقانون مجلس القضاء الأعلى رقم (45) لسنة 2017، وقانون الادعاء العام رقم (49) لسنة 2017 لغرض تصويب هذا القرار غير الدستوري وغير القانوني، وإعادة الأمور إلى نصابها الدستوري والقانوني السليم.
2-ندعو رئيس مجلس القضاء إلى إصدار امر قضائي باستبدال الهيئة التمييزية للمساءلة والعدالة بهيئة تمييزية ثانية تلتزم بنصوص الدستور والقوانين النافذة للعدالة الانتقالية في العراق.
3-في الوقت نفسه ندعو رئيس الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة أو رئيس المفوضية العليا المستقلة للانتخابات إلى تقديم طلب تفسير نص المادتين (7/اولاً) و(135) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 وارساله إلى المحكمة الاتحادية العليا للبت فيه وفقا ًلأحكام المادة (93/ثانياً) من الدستور، وتحديد مدى جواز شمول المرشح لعضوية مجلس النواب في حالة انتمائه السابق لحزب البعث، ومدى جواز الربط بين جريمة الانتماء إلى حزب البعث (المنحل) وبين جريمة الكسب غير المشروع كما ذهبت اليه الهياة التمييزية للمساءلة والعدالة.
يكمن سبب ذلك في أنَّ قرار المحكمة الاتحادية العليا بات وملزم للسلطات كافة وبضمنها الهياة التمييزية للمساءلة والعدالة وفق المادة (94) من الدستور.
4-ندعو لجنة اجتثاث البعث النيابية المشكلة بموجب الامر النيابي رقم (39) في 7/3/2021 إلى مفاتحة مجلس القضاء الأعلى لغرض التحقيق في موضوع المخالفات الدستورية والقانونية المتعلقة بقرار الهياة التمييزية المختصة بالبت في القضايا المتعلقة بالمساءلة والعدالة، وبيان الإجراءات التي ستتخذ من المجلس ورئاسة الادعاء العام لغرض التطبيق السليم للدستور والقوانين النافذة.
5-ندعو جميع المتضررين من جرائم حزب البعث المنحل والنظام البائد إلى تقديم الدعاوى أمام القضاء وفقاً لقانون تعويض المتضررين الذين فقدوا جزءاً من اجسادهم جراء ممارسات النظام البائد رقم (5) لسنة 2009، وذلك من اجل منع الطريق على كل من يسهل عودة حزب البعث المنحل إلى التعددية السياسية في العراق.
6-ندعو لجنة اجتثاث البعث النيابية إلى تحريك الدعاوى الجزائية ومتابعتها بالتنسيق مع الادعاء العام والهياة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة ضد كل من يروج أو يحبذ أو يدعم أو ينتمي لحزب البعث (المنحل) وايلاء هذا الموضوع الأهمية التي تتناسب مع النص عليه في نصوص الدستور وديباجته.
قائمة الهوامش:
[1] – نشر امر سلطة الائتلاف المؤقتة (المنحلة) رقم (1) لسنة 2003 في الوقائع العراقية بالعدد 3977 في 17/6/2003.
[2] – جاء في الأسباب الموجبة للامر رقم (1) لسنة 2003 “اقرار بمعاناة الشعب العراقي مما تعرض له من اساءة على نطاق واسع من قبل حزب البعث الذي حرمه من حقوقه الانسانية وإساءة معاملته عبر سنوات طوال. ونظراً لمشاعر القلق البالغ المنتشر في اوساط المجتمع العراقي بخصوص الخطر الذي يمثله استمرار شبكات وكوادر حزب البعث في ادارة شؤون العراق وما يقوم به مسئولي حزب البعث من ترهيب للشعب العراقي. واهتماماً بما يتعلق باستمرار الخطر الذي يمثله حزب البعث العراقي على امن قوات الائتلاف”
[3] – نشرت هذه المذكرة في الوقائع العراقية بالعدد 3978 في 3/6/2003، وجاء في أسبابها الموجبة “وادراكاً أنَّ الشعب العراقي عانى معاناة شديدة من انتهاك حقوق الانسان والحرمان منها على مدى سنوات عديدة على ايدي حزب البعث واشارة إلى ما يساور المجتمع العراقي من قلق شديد من التهديد الذي يشكله استمرار وجود شبكات حزب البعث واعضائه في ادارة العراق وما يتعرض له الشعب العراقي من تخويف على ايدي مسؤولي حزب البعث وتنفيذا لامر السلطة الائتلافية المؤقتة المتعلق بتطهير المجتمع العراقي من حزب البعث سلطة الائتلاف المؤقتة امر 6 ايار 2003 / 1وامر سلطة الائتلاف المؤقتة المتعلق بتشكيل المجلس المعنى بتطهير المجتمع العراقي من حزب البعث سلطة الائتلاف المؤقتة امر 25 ايار 2003/5”.
[4] – نشر هذا الامر في الوقائع العراقية بالعدد 3977 في 17/6/2003 وجاء في أسبابه الموجبة “واعترافا باستخدام النظام العراقي السابق لكيانات حكومة معينة كادوات لاضطهاد الشعب العراقي وتعذيب افراده وقمعهم ونشر الفساد في صفوفهم”.
[5] – نشر هذا الامر في الوقائع العراقية بالعدد 3977 في 17/6/2003، وجاء في أسبابه الموجبة “واعترافا بان اموال حزب البعث العراقي وممتلكاته تشكل اموالاً تعود للدولة, نظراً لأن الحكومة العراقية كانت دولة تخضع لحكم الحزب الواحد ولحكم العبثيين من عام 1968 إلى عام 2003”
[6] – نشر هذا الامر في الوقائع العراقية بالعدد 3981 في 31/12/2003.
[7] – نُشر هذا القانون في الوقائع العراقية بالعدد 4061 في 14/2/2008.
[8] – نُشر هذا القانون في الوقائع العراقية بالعدد 4420 في 17/10/2016.
[9] – تنص المادة (2) من قانون الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة رقم (10) لسنة 2008 على انه “تاسعاً: تشكل هيئة تمييزية في محكمة التمييز تسمى بهيئة التمييز للمساءلة والعدالة من سبعة قضاة غير مشمولين بإجراءات اجتثاث البعث يرشحهم مجلس القضاء الأعلى ويصادق عليهم مجلس النواب , يرأسهم القاضي الأقدم وتتخذ قراراتها بأغلبية أربعة أصوات. عاشراً: تنظر هيئة التمييز في جميع الطعون المقدمة من المشمولين بالإجراءات المنصوص عليها في هذا القانون” كما تنص المادة (17) من القانون “وتكون قراراتها قطعية وباتة” .
[10] تنص المادة (159) من قانون المرافعات المدنية على انه (1 – يجب أن تكون الأحكام مشتملة على الأسباب التي بنيت عليها وان تستند إلى أحد أسباب الحكم المبينة في القانون .2 – على المحكمة ان تذكر في حكمها الأوجه التي حملتها على قبول أو رد الادعاءات والدفوع التي اوردها الخصوم والمواد القانونية التي استندت اليها) .