ابحاث ودراساتسلايدر
التعطيل الفعلي لنص المادة (92/ثانياً) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005م
م.م. علي فاضل ابراهيم المعموري
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
تعد الوثيقة الدستورية، ديمقراطية المنشأ اذا كانت نتاج الجمعية التأسيسية أو الاستفتاء الشعبي، بهدف ابعادها عن قبضة الحاكم، بيد ان يكون للشعب كلمة الفصل في وضعها، ويعد اسلوب الاستفتاء الدستوري اكثر الطرق ديمقراطية في اصدار الدساتير، وبها يشترك الشعب في شؤون السلطة والحكم، وهذا ما نسجه دستور جمهورية العراق لسنة 2005، بقوله في صدر المادة الخامسة منه بأن الشعب مصدر السلطات وشرعيتها.
وتطرح الوثيقة السامية، فلسفة النظام السياسي القائم، ببيانها شكل الدولة ونظام الحكم وتحديد السلطات العامة وتسعى جاهدة الى التوازن بينهم، كون الوثيقة الدستورية تتمتع بمبدأ سمو الدستور من ناحيتي الشكل والموضوع، والدستور العراقي النافذ لم يجرد من هذا المبدأ، اذ ورد في متن المادة (13) منه الى “يُعد هذا الدستور القانون الاسمى والاعلى في العراق، ويكون ملزماً في انحائه كافة، وبدون استثناء” في حين أشارت الفقرة الثانية من نفس المادة الى عدم جواز سن قانون يتعارض مع الدستور، بلحاظ أن علوية الدستور تكمن في نفاذه على الحكام والمحكومين على حدٍ سواء، وهذا ما ذهبت اليه المادة (144) من الدستور العراقي النافذ بقولها ” يُعد هذا الدستور نافذاً، بعد موافقة الشعب عليه بالاستفتاء العام …” لعمري ان هذا النص قوبل بتأييدً كبير من الشعب العراقي الذي بلغ اجمالي الاصوات المؤيدة (7،742،916) صوتاً.
وبفعل الواقع السياسي والخلاف الكتلوي، تغدوا الوثيقة الدستورية حبراً على ورق، نتيجة التعطيل الفعلي، فمما يؤسف أن الكثير من نصوص الدستور باتت معطلة فعلياً وواقعياً، وبدون سابق انذار, ونص المادة (92/ثانياً) من دستور جمهورية العراق النافذ، وقعت ضحية الخلافات السياسية المقيتة, ويتمحور جوهر الخلاف حول اشراك الخبراء في الفقه الاسلامي وفقهاء القانون في تشكيلة المحكمة الاتحادية العليا من عدمه، وما اذا كانت تلك الفئات تعتبر دخيلة على عمل المحكمة، وعليه نؤكد ان الدستور نصَ بشكل صريح في المادة (92/ثانياً) منه الى “تتكون المحكمة الاتحادية العليا، من عدد من القضاة، وخبراء في الفقه الاسلامي، وفقهاء القانون، يُحدد عددهم، وتنظم طريقة اختيارهم، وعمل المحكمة بقانون يُسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب”، والمتضح من هذا النص أن اعضاء المحكمة من القضاة، وخبراء الفقه الاسلامي، وفقهاء القانون، أعضاء أصلاء في المحكمة، لكل منهم صوت واحد .
وانطلاقاً من نص المادة (13)، سابقة الذكر أنه لا يجوز سن قانون يتعارض واحكام المادة (92/ثانياً) من الدستور، ويتوجب على مجلس النواب سن قانون يتناسب واحكام الدستور، إذ توالت المحاولات السياسية جاهدة لتشريع قانون المحكمة الاتحادية العليا، ومنها مشروع قانون المحكمة الاتحادية العليا لعام (2015)، الذي لم يرى النور، نتيجة الاقتتال السياسي الذي رافق عملية التشريع، وتجسدت المحاولة الثانية في 8/آذار/ 2021، عندما بادر مجلس النواب في استكمال التصويت على المواد المتبقية من مشروع قانون المحكمة الاتحادية العليا لعام (2021) ومنها آلية تشكيل المحكمة وفق النهج الدستوري، وكالمعتاد فشل المجلس في التوصل الى اتفاق سياسي ينتج عنه التصويت بأغلبية ثلثي أعضائه .
فضلاً عن ذلك، فرجال القانون وسيداته، لم يكنُ بمنأى عن الخلاف المتمحور حول اشراك خبراء الشريعة والقانون، وعليه نسطر الادلة الدامغة التي تجسد عمل هذه الفئات:
اولاً- ذهب البعض الى أن العمل القضائي يكمُن في شخصية القاضي، وعلى هذا الاساس يعد باطلاً كل نص يقحم الى جانب القضاة، مستشارين أو خبراء.
ورداً على هذا الادعاء ان المحاكم الدستورية ذات طبيعة خاصة، فهي تولد كلما اقتضى الواقع السياسي وما تطلبه الحاجة الاجتماعية، بيد أن الدستور العراقي النافذ، أشار صراحةً الى انه لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام.
ثانياً- يدعي البعض أنه وبموجب احكام المادة (88) من الدستور، (… لا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء او في شؤون العدالة)، وعليه لهذا الادعاء نؤكد أن المراد بالنص المطروح، هو مبدأ استقلال القضاء، الذي يتطلب عدم جواز تدخل السلطات الاتحادية الاخرى، في العمل القضائي الصرف، او في شؤون العدالة، كما كانت اغلب الحجج متأثرة بالتقسيم التقليدي للقضاء العادي، جاهلين الطبيعة الخاصة لعمل المحاكم الدستورية.
ثالثا- أن اشراك خبراء الفقه الاسلامي وفقهاء القانون، ليس بدعه أو سلوكاً شاذاً عن الاتجاه العام في المحاكم الدستورية حول العالم، فالفقيه الاسلامي والخبير القانوني وعمل القاضي، يكملان عمل البعض، من خلال آلية استنباط الاحكام القانونية والشرعية من موضعها الصحيح.
رابعاً- يذهب البعض أن اشراكهم يجر البلاد والعباد الى تأسيس دولة دينية شبيهة الى حدً كبير بولاية الفقيه، وهذا الادعاء لا سند له ولا اصل، بيد أن المحكمة تقضي بالمنازعات المطروحة أمامها، وينتهي النزاع بانتهاء الدعوى.
وفي الختام، نشد على مشاركة خبراء الفقه الاسلامي وفقهاء القانون، في عمل المحكمة الاتحادية العليا، لكن البرلمان العراقي سلك طريقاً آخر وهو الرجوع الى مشروع قانون التعديل الاول لقانون المحكمة الاتحادية العليا رقم (30) لسنة 2005، معطلاً بذلك نص المادة (92/ثانياً) من دستور جمهورية العراق النافذ، الذي اوصى بسن قانون يحدد عدد أعضاء المحكمة وطريقة عملهم، بأغلبية ثلثي اعضاء مجلس النواب العراقي.