تحليلات واراءسلايدر

الرَحمَة والعالَمين

د. أنور سعيد الحَيدَري

مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

تزامنت ذكرى مولد نَبي الرحمَة مُحَمَّد بنَ عَبدِ الله (ص) عام ١٤٤٢هـ- الموافق ٢٠٢٠م مع تصريحات مسيئة للإسلام ورسولهِ الأعظم (ص) من جانب رئيس الجمهورية الفرنسية ماكرون على خلفية أحداث داخلية شهدتها فرنسا نتيجة لمسببات عدة خاصة بالمجتمع الفرنسي، فضلا عن متغيرات سياسية وفكرية ثقافية يشهدها العالم بمجمله.

ومع أن الإساءة للإسلام ورسولهِ (ص) ولدت مع انبثاق الدعوة الإسلامية في مهدها، وتكررت على مدى قرون، إلا أن تصريحات الرئيس الفرنسي جاءت لتكشف عن معطيات ودلائل أخرى تشهدها هذه المرحلة من مراحل سيرورة البشرية وتطور النظام العالمي. ولعل أبرز ما كشفت عنه تلك التصريحات المسيئة هو:

  • أنها صدرت من فرنسا، البلد الذي يشهد له بالتقدم في ميدان الثقافة، وكان له السبق في عصر التنوير، وأنجب العديد من الفلاسفة والمفكرين، وما زالت باريس تعد عاصمة الثقافة العالمية.
  • ولم تصدر تلك الإساءات عن تيار فكري، أو مؤسسة معينة، بل من رئيس الجمهورية شخصيا، وهو رئيس منتخب ديمقراطيا، ويمثل الأمة والدولة الفرنسية، الأمر الذي يعني أن الإساءة كانت رسمية وصدرت من أعلى هرم الدولة ضد أكثر من ٥٠ دولة تقر دساتيرها بالإسلام كهوية للدولة، فضلا عن جميع المسلمين في أجراء العالم المختلفة الذين تصدح مساجدهم خمس مرات كل يوم بعبارة: (أَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً رَسولُ الله).
  • إن هذه الإساءة التي وجهها الرئيس ماكرون تحمل في طياتها أزمة داخلية بنيوية في الثقافة والمجتمع الفرنسي، وقد أقر هو بذلك عندما تحدث عن اخفاق سياسات الدولة في دمج مواطنيها المسلمين اقتصاديا واجتماعياً في بيئة الدولة ككل، واستمرت في عزلهم في أحياء محددة (كيتوهات)، ولم تفكر جديا في معالجة ما قد ينجم عن تلك السياسة من آثار اجتماعية.
  • إن الأزمة المجتمعية في فرنسا، لا علاقة لها بالإسلام كدين، ولا بالرّسول كأسوة، ولكن في طبيعة العقلية التي يحملها الرئيس ماكرون والعديد من أبناء الشعب الفرنسي. فهم يؤمنون بقيم (الجمهورية) الفرنسية، ويرى الرئيس ماكرون أن سلوكيات المسلمين في فرنسا تبتعد عن قيم (الجمهورية)، وهناك مظاهر يتجلى فيها ذلك الابتعاد عبر سلوكيات يقوم بها الفرنسيون تتنافى واللائيكية الفرنسية، ومن بين تلك السلوكيات التي ذكرها: ارتداء المرأة للحجاب، عدم مصافحة المرأة للرجل، الفصل بين الرجال والنساء في المسابح، ما وصفه بـ”الطعام الطائفي” أي الطعام وفق الشريعة الإسلامية، فضلا عن التعليم الخاص. وقد تعهد ماكرون بمحاربة هذه المظاهر جميعا بإجراءات وتشريعات قانونية ستتخذ.
  • إن ما تقدم، ووفقا لرأي أحد المفكرين الفرنسيين، يعني انتقال الاسلاموفوبيا من اليمين المتطرف إلى الدولة الفرنسية، ويبدو أن الرئيس ماكرون أراد أن يناغم اليمين المتطرف أملاً في كسب أصواته في الانتخابات القادمة.
  • ويبدو أيضاً أن الرئيس ماكرون أراد صرف الأنظار عن أزمات بلاده الداخلية، ومنها آثار جائحة كورونا الاقتصادية، إلى أزمة خارجية يكون شماعتها الإِسلام ورَسولُهُ (ص).
  • ويبدو أن ذلك تزامن مع تصاعد الخلاف بين فرنسا وتركيا، ومع أن كلا الدولتين تتبنيان اللائيكية رسميا، إلا أن خلافاتهما الأخيرة حول حوض المتوسط، وتبني الرئيس التركي للخطاب الإسلامي قد أسهم في دفع الرئيس ماكرون إلى انتهاج خطاب مضاد.
  • لقد استشهد الرئيس ماكرون في خطابه عن “أن الإسلام يعاني أزمة عالمية” بما أسماه بـ (الخلافة) في كناية عن (داعش)، ومن غير المتوقع أن يكون لا يعلم بأن (داعش) صناعة غربية، وأن فرنسا كانت داعمة للتنظيمات الإرهابية المتطرفة وهي تسعى للإطاحة بالنظام في سوريا.
  • وفي معرض إشارته للتنظيمات الإرهابية، ربط الرئيس ماكرون الإرهاب بالإسلام، وهو ربط غير موفق ويفتقر إلى القراءة الموضوعية الدقيقة.
  • إن ربط سلوكيات سياسية خارجية تعلن انتماءها لدين معين في مرحلة تاريخية محددة بدين بأكمله، أمر لا يقبله (العقل) الذي تحدث عنه الرئيس ماكرون. فمن اللاعقلانية ربط المسيحية كديانة بالصليبية، ولا الأصولية الموسوية بالأصولية الصهيونية، وكذا الحال فيما يخص الإسلام والتنظيمات الإرهابية.
  • فمن بين قيم (الجمهورية) التي تحدث عنها الرئيس ماكرون كان (الإرهاب)، حين تبنى روپسبير وشركاؤه في الجمهورية الفرنسية الإرهاب كمنهج لتحقيق الفضيلة، وابتدعت المقصلة لقطع رؤوس المخالفين، ولتقطع أيضا رأس روپسبير نفسه. فضلا عن ممارسات أنظمة الحكم الفرنسية المتعاقبة للإرهاب في تعاملها مع شعوب مستعمراتها في أفريقيا والشرق الأوسط. وإن استمرار الربط بين الإسلام والإرهاب شبيه بالربط بين الجمهورية والإرهاب، وهو ربط غير منطقي بعد أن تخلت الجمهورية عن الإرهاب كمبدأ للحكم، مثلما يرفض الإسلام الإرهاب جملة وتفصيلا. بل أن شعار الثورة والدولة الفرنسية (الحرية، الإخاء، المساواة) هو شعار مشترك مع منظومة الإسلام القيمية.
  • ومن ثم، فإنه لا يمكن ربط سلوك معين لجماعة أو قومية أو عقيدة معينة ظهرت في ظروف تاريخية معينة بأمة كاملة. فمثلما لا يجوز ربط إرهاب روپسبير بالأمة الفرنسية المعاصرة، ولا ربط إرهاب تروتسكي بالأمة الروسية، لا يجوز ربط إرهاب داعش بالأمة الإسلامية.
  • يتحدث الرئيس ماكرون عن قيم العلم والثقافة في فرنسا، وعراقة السوربون والمؤسسات العلمية الفرنسية، لكنه يقر في الوقت ذاته باستخدام الرسوم الكاريكاتورية والسخرية في المس برموز أمة يتجاوز إعداد أبناءها المليار نسمة ينتشرون في معظم أصقاع المعمورة، وعن رسولٍ يحظى بقداسة المليارات من أبناء البشرية على مدى قرون، ويقينا أنه سيرفض أية إساءة من هذا القبيل لزعيم مثل الجنرال ديغول الذي ترى فيه فرنسا رمزا للأمة الفرنسية، ومحررا لفرنسا من الاحتلال الألماني، ومؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة، في وقت كانت فيه فرنسا توغل قتلا في المسلمين شمال أفريقيا، والجزائر تحديدا.
  • وإذا كان الرئيس ماكرون يتحدث عن (الحرية)، فمعروف أن الحرية في الفكر الليبرالي تتوقف عند حدود حرية الآخرين، وهي لا تعني الإساءة إلى فرد واحد فضلا عن أمة بأجمعها. ونعلم يقينا أن هذه الحرية الفرنسية، والغربية عموما، هي عبارة عن قيود مطلقة في وجه حرية التعبير عن الصهيونية ومزاعمها في معاداة السامية والهولوكوست وغيرها من المزاعم الأخرى.
  • وبالمقابل، نجد أن فرنسا التي تضيق على حريات الأقلية المسلمة فيها، لا تتورع عن التدخل في شؤون عدد من البلدان المسلمة بحجة حماية حقوق وحريات الأقليات فيها. ومع مرور قرنين على تبنيها العلمانية، تظهر نفسها وكأنها راعية للمسيحيين في الشرق الأوسط.

لذا يمكن القول أن الأزمة لا تكمن في الإسلام كدين، ولا في رسوله الكَريم كأسوة، بقدر ما تكمن في المجتمع الفرنسي نفسه، ففشل الحكومات الفرنسية المتعاقبة في دمج مواطنيها المسلمين، والإجراءات اللائيكية التي اتبعتها السلطات الفرنسية ضد الملتزمين دينيا، وغض نظرها عن الإرهابيين الفرنسيين الذين صدرتهم الى سوريا والعراق عبر  التنظيمات الإرهابية التي نشطت هناك بفضل دعم الغرب لها، ومشاكل بنوية خاصة بالمجتمع الفرنسي فيما يخص الهوية والاندماج، فضلا عن عوامل ظرفية مرحلية أخرى، هي التي دفعت الرئيس ماكرون الى تحميل دين بأكمله مسؤولية أخطاء تراكمت في بلاده.

أما الإسلام كدين سماوي، فما زال يصدح قرآنَه منذ أربعة عشر قرناً بأن علة الرسالة المرسلة من إله رَحمنٍ رَحيم هي الرحمة للعالمين من أي قومية ودين كانوا، وفي أي زمان ومكان عاشوا، (وَما أَرسَلناكَ إِلا رَحمَةً لِلعالَمين).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق