ابحاث ودراساتسلايدر
الدولة واللادولة في العراق – ج 16
جريمة حرق العلم الرسمي العراقي في إقليم كردستان
(العراق أمام أنظار الرئاسات الثلاث)
الدكتور مصدق عادل
كلية القانون – جامعة بغداد
مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
يمثل العلم الرسمي لأي دولة رمزية عليا، وذلك لأنه يعبر عن السيادة الوطنية من جهة، فضلاً عن أنه يحمل دلالات ترمز إلى الارض والانسان والنظام السياسي والحكومة والدولة مجتمعين من جهة أخرى، كما أنَّ رمزية العلم تندمج وترتبط بقدسية دماء الشهداء التي سالت من أجل الحفاظ على تربة الوطن وسمائه ومياهه وثرواته، لترسم معالم الطريق الجديد للدولة التي تعيش وتتنفس بقدسية هذه الدماء التي اندمجت بقدسية العلم الوطني، وللتدليل على أهمية العلم نجد أنه في العمليات العسكرية بمجرد تنزيل العلم فانه يشير إلى تحقيق النصر على العدو.
ولهذا فإنَّ رمزية العلم تأخذ أبعاداً وجدانية مستقر في ضمائر المواطنين الصالحين تصل إلى حد التقديس باعتباره من رموز الوطنية والكرامة، وهو الأمر الذي أدى إلى تشدد موقف القوانين العقابية في مسالة تجريم الإساءة إلى العلم الوطني وفرض العقوبات الصارمة ضد من ينتهك أو يسيء إليه، كونها من الجرائم الماسة بأمن الدولة وسيادتها الوطنية.
ويعد يوم السبت الموافق 17 تشرين الأول 2020 من الأيام المأساوية السوداء في تاريخ العراق المعاصر، ففي هذا اليوم أُنتهكت السيادة العراقية بصورة عامة، ولم تُحترم قدسية العلم الرسمي لجمهورية العراق بصورة خاصة، وذلك من قبل بعض الذين يدعون انتمائهم للعراق، ويحملون رابطة الولاء بالدم للوطن، ألا وهي الجنسية العراقية.
وتمثلت وقائع هذه القضية بقيام بعض المسيئين مساء هذا اليوم بالتجمع في أربيل – حسب الفديو المنشور على وسائل التواصل الاجتماعي- وإقامة كرنفال لغرض حرق العلم الرسمي العراقي الاتحادي، وذلك على إثر تعرض مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في العاصمة العراقية بغداد إلى الحرق والتخريب صباح هذا اليوم، ومن ثم تم حرق علم جمهورية العراق.
وفي الوقت الذي شاهدنا فيه إثارة حفيظة الرئاسات الثلاثة، وكذلك السياسيين من رئيس مجلس الوزراء والكتل النيابية والنواب وغيرهم وتسارعهم في إصدار بيانات الشجب والاستنكار لجريمة حرق مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد[1]، كونها جريمة تهدد السلم الأهلي في العراق، فضلاً عن اعتقال عشرات الأشخاص على إثرها، غير أننا بالمقابل لم نشهد مثل هذا الحماس والغيرة الوطنية على حادثة حرق العلم الرسمي العراقي في محافظة أربيل في نفس اليوم على مسمع ومرأى من الجميع، وذلك بالاعتماد على البيان الذي أصدره محافظ أربيل في يومها، والذي ينكر فيه وقوع هذه الحادثة جملة وتفصيلاً، وأنها تعود لتأريخ سابق، رغم أنَّ جريمة حرق العلم جريمة لا تتقادم كونها من الجرائم الماسة بأمن الدولة الداخلي.
ومن امعان النظر في دستور جمهورية العراق لسنة 2005 نجد أنَّه إيماناً من المشرع الدستوري بأهمية العلم الرسمي – كونه عنوان الدولة ورمز شموخها وسيادتها وعزتها- فإنه أفرد المادة (12) من الدستور لمعالجة الوضع الدستوري للعلم العراقي، إذ تنص على أنه (اولاً: ينظم بقانون علم العراق وشعاره ونشيده الوطني بما يرمز إلى مكونات الشعب العراقي).
وعلى الرغم من تراخي مجلس النواب في إصدار قانون جديد للعلم العراقي يحل محل العلم السابق وفقاً للنص الدستوري، غير أنه يلاحظ وجود قانون سابق وهو قانون (علم العراق رقم (33) لسنة 1986)، ورغم الالزام الدستوري بإصدار قانون جديد، غير أنَّ مجلس النواب اكتفى بإصدار قانون تعديل له وهو (القانون رقم (9) لسنة 2008 (قانون تعديل قانون علم العراق رقم (33) لسنة 1986 وتعديله قانون تعديل قانون علم العراق رقم (6) لسنة 1991)[2].
وبهذا النص يتضح أنَّ العلم الرسمي مقدم على الشعار الوطني للعراق من جهة، ومقدم ايضاً على النشيد الوطني من جهة أخرى، وذلك لأهميته ودلالاته الدستورية والقانونية والسياسية، ناهيك عن ارتباطه بجميع مكونات الشعب العراقي، وهو الأمر الذي حدا بالمشرع الدستوري إلى فرض واجب تنظيم العلم الرسمي بقانون يصدر من مجلس النواب العراقي انسجاماً مع هذه الأهمية.
وفضلاً عن ذلك فإنَّ عدم اتخاذ الإجراءات القانونية عن جريمة حرق العلم العراقي يشكل مخالفة وانتهاكاً صريحاً للعديد من النصوص الدستورية، اذ ان رئيس الجمهورية – باعتباره رمز وحدة الوطن ويمثل سيادة البلاد التي انتهكت سيادتها الداخلية- ملزم وفق المواد (67) و(50) و(71) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 بالمحافظة على سيادة العراق والالتزام بتطبيق التشريعات بأمانة وحياد.
وينطبق الواجب المذكور على رئيس وأعضاء مجلس النواب وفقاً لأحكام المادة (50) من الدستور، وكذلك الحال بالنسبة إلى رئيس مجلس الوزراء والوزراء وفقاً لأحكام المادتين (50) و(79) من الدستور.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه بالرجوع إلى قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 نجد أنَّ المادة (202) منه تنص على انه (يُعاقب بالسجن مدة لا تزيد على (عشر) سنين أو بالحبس كل من أهان بإحدى طرق العلانية الأمة العربية أو الشعب العراقي أو فئة من سكان العراق أو العلم الوطني أو شعار الدولة).
يتضح من المادة أعلاه أنَّ الجرائم والانتهاكات الموجهة إلى العلم الرسمي لجمهورية العراق تعد من الجرائم الماسة بأمن الدولة الداخلي، إذ اعتبرها المشرع العراقي (جناية) تصل فيها العقوبة إلى السجن المؤقت الذي لا تزيد مدته على (10) سنوات، غير أنه في الوقت ذاته أجاز للقاضي النزول بالعقوبة إلى الحبس.
وبناء على تقدم نرى أنَّ جريمة حرق علم جمهورية العراق في محافظة أربيل تُعد جريمة موجهة ضد أمن الدولة العراقية الاتحادية، وكان يتوجب على السلطات الثلاثة في العراق ممثلة بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية أنْ تتخذ الإجراءات القانونية دون تأخير في حادثة الحرق العمدي لعلم جمهورية العراق باعتبارها جناية، وعلى غرار الإجراءات القانونية التي تم اتخاذها بصدد جريمة حرق مقر الحزب الديمقراطي رغم أنها تشكل (جنحة) عقوبتها الحبس.
ومن أجل إعادة كرامة المواطن العراقي الذي انتهكت كرامته بحرق العلم الرسمي لجمهورية العراق، فإننا ندعو الرئاسات الثلاثة والسلطة القضائية إلى تنفيذ المقترحات والتوصيات الآتية:
1- ندعو مجلس النواب إلى اصدار قانون جديد يحل محل قانون علم العراق رقم (33) لسنة 1986 المعدل، مع استبدال التسمية لتصبح (قانون علم جمهورية العراق) فضلاً عن تضمينه تحديد يوم من كل سنة للاحتفال بالعلم الوطني لجمهورية العراق في جميع مؤسسات الدولة والقطاع العام في العراق، مع تشديد العقوبة المفروضة على حرق العلم العراقي لتصبح السجن المؤبد.
2- ندعو رئيس جهاز الادعاء العام إلى تحريك الإجراءات القانونية بناءً على مقطع اليوتيوب المنشور على وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك عن جريمة حرق علم جمهورية العراق، باعتبار الادعاء العام هو المكلف بحماية نظام الدولة وأمنها والحرص على المصالح العليا للشعب وفقاً للمادة (2) من قانون الادعاء العام رقم (49) لسنة 2017.
3- ندعو رئيس الجمهورية إلى إصدار بيان استنكار لحادثة حرق علم جمهورية العراق وشجبها، وطلب اتخاذ الإجراءات القانونية، انطلاقاً من دوره الدستوري باعتباره رمز وحدة الوطن، وعلى أساس المساواة بين جميع العراقيين أمام القانون.
4- ندعو رئيس مجلس الوزراء إلى اصدار بيان استنكار وشجب لحادثة حرق علم جمهورية العراق، وطلب اتخاذ الإجراءات القانونية ضد المجرمين، انطلاقاً من اعتباره المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسة العامة للدولة وفق المادة (78) من الدستور، وعلى أساس مساواة المواطنين جميعاً امام القانون وفقاً للمادة (14) من الدستور.
5- ندعو رئيس وأعضاء مجلس النواب إلى إصدار بيان يدين فيه حرق علم جمهورية العراق والطلب من الادعاء العام اتخاذ الإجراءات القانونية ضد المجرمين الذين اساءوا للعلم العراقي وتقديمهم للمحاكمة.
6- ندعو إلى رفض مجلس القضاء الأعلى طلب نقل دعوى حرق مقر الاتحاد الديمقراطي الكردستاني إلى محاكم إقليم كردستان، وذلك بالاستناد إلى المادة (53/أ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971 التي تنص على أنه (يُحدد اختصاص التحقيق بالمكان الذي وقعت فيه الجريمة كلها أو جزء منها).
[1] – تنص المادة (477) من قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 (مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد ينص عليها القانون:1 – يُعاقب بالحبس مدة لا تزيد على (سنتين) وبغرامة لا تزيد على (مائتي) دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين من هدم أو خرب أو أتلف عقاراً أو منقولاً غير مملوك له أو جعله غير صالح للاستعمال أو أضر به أو عطله بأية كيفية كانت).
[2] – نشر القانون رقم (9) لسنة 2008 في الوقائع العراقية بالعدد 4059 في 5/2/2008، وتنص المادة (1) منه على انه (تعدل الفقرة ثانياً من المادة الثانية من قانون علم العراق رقم (33) لسنة 1986 وتكون على الشكل الآتي: ثانياً: تمثل ألوان العلم العراقي ألوان الرايات الإسلامية وتحذف النجوم الثلاث ودلالاتها)، فيما تنص المادة (2) منه (تحذف من المادة (1) من قانون رقم (6) لسنة 1991 الإشارة إلى النجوم الثلاث و (وبخط الرئيس القائد صدام حسين رئيس الجمهورية) وتحل بدلاً عنها عبارة الله أكبر (بالخط الكوفي) تشغل الثلث الأوسط من المستطيل الأبيض طولاً والربعين الأوسطين عرضاً)، اما المادة (3) منه فتنص (تعدل كافة الأنظمة والتعليمات ذات الصلة وفق ما ورد في المادتين (1) و (2) ويعمل به لغاية إصدار قانون العلم العراقي الجديد).